النوم في كَفَن

07 يوليو 2024
"الليلة الأخيرة في غزّة" لـ ملك مطر/ فلسطين
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تجربة النزوح واللجوء في مستشفى الشفاء:** تلقى الكاتب اتصالاً لإخلاء منزله، وبعد إقناع والده، توجهوا إلى مستشفى الشفاء المزدحم بالعائلات والنازحين، حيث قضوا أربعة أيام تحت القصف بجانب ثلاجة الموتى.

- **رحلة الهروب إلى رفح:** قرر الكاتب التوجه إلى رفح سيراً على الأقدام، وواجه صعوبات عديدة، لكنه تلقى مساعدة من بعض الأشخاص. وصل إلى منزل صديقه في رفح، ثم عاد إلى مستشفى الشفاء بعد تلقيه اتصالاً من والده.

- **إنتاج فيلم "جنة جهنم":** التقى الكاتب بالمخرج رشيد مشهراوي وعملا على فيلم مستوحى من تجربته. الفيلم عُرض في "مهرجان كان" ليعبر عن معاناة الناس في غزة تحت القصف والحصار.

تخصّص "العربي الجديد" صفحة "نصوص الحياة والحرب من غزّة" لشعراء وروائيين ومسرحيين وفنانين من قطاع غزة، كي يعبّروا عن تفاصيل الحياة اليومية تحت القصف الإسرائيلي. هي نصوص تقول الحياة والإنسان من قلب الموت.


في 31 تشرين الأول/ أكتوبر جاء اتصال لوالدي يبلّغه بإخلاء البيت فوراً، إلّا أنّ والدي رفض أن نغادر منزلنا. 
نجحتُ بإقناعه لاحقاً بأنّ ثمّة فُرصة أن نتوجَّه لمستشفى الشفاء، ومع أن المستشفى كان مهدَّداً أيضاً، إلا أن ازدحامه بالعائلات والنازحين كان مُطمْئِناً نوعاً ما، أو هكذا اعتقدتُ. فقد كنت أظن واهماً أن من المستحيل قصف مستشفى أو أيّ مركز طبّي! في وهمي مثلي مثل الكثيرين.

حين وصلنا إلى مستشفى الشفاء كانت المفاجأة الصادمة أننا لم نعثر على أيّ مكان يسعنا، وبعد جهدٍ جهيد استطعنا إيجاد مكان قريب من السلالم، في قسم الولادة، ليضمني أنا وأخواتي وابنة عمي وزوجة عمي.

بعد بحثِ جهيد تشاركنا فيه كلنا أنا وأخي وأولاد عمي، عثرنا على مكان عند ثلاجة الموتى لنقضي فيه ليلتنا. ففي الوقت الذي كانوا يصُفُّون فيه جثث الشهداء صباحاً، كنا نرتّب أجسادنا حتى ننام فيه ليلاً.

بقينا في المستشفى أربعة أيام إلى أن جاءت مروحية وقصفت الطوابق الأخيرة في المبنى، كما قصفت جميع ألواح الطاقة الشمسية بهدف فصل الكهرباء وأية مظاهر تمدّ المستشفى بالحياة. ظلّ المستشفى تحت القصف والاستهداف، وحصدت الطائرات أرواحاً كثيرة من النازحين أمثالنا. اتصلت وقتها بصديق لي يقيم في رفح، وأخبرته بأنني أرغب بأن نتوجّه إليه، لكن والدي رفض المجيء معي، وقرر العودة مجدداً إلى منزلنا بعد أن قررنا ترك ملاذنا في مستشفى الشفاء.

كان قد سيطر عليّ خوفٌ شديد، وصمّمت على الذهاب للجنوب، فتركت والدي وإخوتي وتوجهت نحو جنوب وادي غزة مع وعد بأن أواصل طمأنة أبي طوال الطريق حتى أصل لمبتغاي. تجمعنا في البيت في حيّ الرمال. لم يكن البيت يبعد كثيراً عن المستشفى. عند التاسعة صباحاً، خرجت من البيت مشياً على الأقدام متجها إلى المنطقة التي يسكن فيها صديقي، والتي كانت تبعد خمسمئة متر تقريباً عن الحدود المصرية. في طريقي، مررتُ بحاجز للجيش اضطرني أن أحمل هويتي بيدي اليمين، وأقوم برفع ذراعي الشمال طوال فترة وقوفي، مثلي مثل غيري، في طابور صارمٍ، لم نستطع أن نتحرّك به يميناً أو شمالاً. 

كنتُ متوتراً جدّاً من أيّ تصرّف عدائي مفاجئ قد يُقدم عليه جيش الاحتلال. 

بعد بحثٍ جهيد تشاركنا فيه كلّنا، عثرنا على مكان عند ثلّاجة الموتى لنقضي فيه ليلتنا

مشيتُ إلى أن وصلت إلى دير البلح، وقد كان من الصعب الاستعانة بمواصلات نظراً لغلاء أسعارها أو قلّة وجودها، أما العربات التي تجرّها الحمير، فقد كانت مسموحة فقط  للعائلات، عدا عن أنها كانت مكلفة جداً بشكل خيالي. صادفتُ رجلاً طاعناً في السن طلبت منه القليل من الماء، فسقاني بعد أن سألني عن حالنا وودعني متمنياً لي السلامة. 

وصلتُ إلى مفترق الطرق المؤدي للقرارة أو ما يسميه الناس "كيف القرارة"، وهذا عند أوّل مدخل مدينة خانيونس، ولحسن حظّي وجدتُ هناك رجلاً يقوم بتوزيع وجبات أرز ولحم. كنتُ جائعاً بشكل كبير، فأنا لم آكل منذ بدأتُ رحلتي مشياً على الأقدام كل تلك المسافة، ودفعني جوعي لأن أتجرأ وأقترب منه فأعطاني لفّة الرز واللحم، وقد مضى عليّ ثلاثين يوماً لم أذق فيها طعم اللحمة. نعم لم أذق طعم اللحم منذ ثلاثين يوماً.  

أخذتُ وجبتي وسرت باتجاه أقرب بقالة، واستأذنت من صاحبها أن أجلس أمام بقالته لأتناول وجبتي. كان لطيفاً وسخياً، إذ قدّم لي ملعقة ومشروباً غازياً، وسيجارة "عندما كان سعرها دولارًا". 

عدتُ لأكمل مسيري، أو بالأصحّ نزوحي، وقد كان صديقي يطمئن عليّ طوال الطريق. وصلتُ إلى منزله وقت المغرب وطمأنت أهلي، ثم مضى يومان لم أستطع فيهما حراكاً من كثرة التعب، إذ كنتُ أعاني من آلام شديدة في مفاصلي وعظامي. كنّا أنا وصديقي نقضي وقتنا في متنزّه يقع مقابل بيته، والذي أصبح لاحقاً مليئاً بالنازحين وخيامهم. كلّ مساحة تتحوّل إلى مكان للنزوح.

في اليوم الثاني، جاءني اتصال من والدي يبلغني فيه بأن الجيش يحاصرهم في حيّ الرمال من جميع الاتجاهات، ولا يعلمون ما الذي عليهم فعله. كان والدي قد اضطر للعودة إلى مستشفى الشفاء. بعد فترة، أخبرني عبر اتصال آخر بأنه أخذ أخواتي من مستشفى الشفاء، واتجهوا جميعاً لمدرسة "الفلاح" وهو يحمل بيده ملابسي الداخلية البيضاء إشارة لطلبه الأمان.

بعد مضيّ أسبوع، لحق بي والدي للجنوب وأخبرني بأنه سيتجّه لمستشفى شهداء الأقصى في دير البلح. ولحسن الحظ حينها أنه حال وصوله تمّ التوصل لهدنة لمدة خمسة أيام، خلالها كنت أقضي وقتي مع أصدقائي، في خانيونس، بعد أن تركتُ منزل صديقي في رفح بسبب اكتظاظ النازحين فيه. وما أن انتهت فترة الهدنة حتى صدرت أوامر بإخلاء خانيونس، في تلك الفترة كنت قد انتقلت من بيت صديقي الذي استضافني لأسبوع إلى بيت عمي في المنطقة نفسها بخانيونس، حيث بقيت عنده إلى أن قررت التوجه لعائلتي والبقاء معهم حيث كانوا يحتمون في خيمة في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح.

حين وصلتُ إلى المسشتفى لم أجد فراشًا أنام عليه، حينها توجهت إلى ثلاجة الموتى وأخذتُ كفناً لأنام فيه. أوقفني مسؤولٌ هناك وحاول منعي من أخذه، لكني قلت له بأنه سيكون من حقي عندما أموت، فلأستمتع به وأنا ما زلت حيّا. كانت هذه الحادثة هي بذرة الفيلم القصير الذي أخرجته لاحقًا. بعد فترة، أرسل لي صديق من رام الله كلفة فِراش، وقد كانت كلفته عالية إلا أنه أصبح لديّ فرشة طبيعية أنام عليها. 

في تلك الفترة، حدث اتصال بيني وبين المخرج رشيد مشهراوي، وطلب مني أن أعمل على صناعة فيلم من وحي الأحداث التي مررتُ بها. فكان من نومي لأيام داخل كفن، واستحمامي في مغسلة الموتى دون إدراكي بداية أنها لغسل الموتى، كلّ الفضل والأثر لأن تُخرِج هذه الأيام المظلمة فيلمي القصير "جنة جهنم" إلى النور. الفيلم الذي عرض في "مهرجان كان" ضمن الاحتفال بمشروع أفلام غزة "أفلام من مسافة الصفر". 


* فنّان ومسرحي من غزّة
 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون