استمع إلى الملخص
- مفهوم "القدوة الأدبية" الذي أشار إليه ناجي نجيب في مقارنته بين محفوظ ومان، يبرز أهمية التأثير المتبادل بين الكتّاب، رغم اختفائه من النقد العربي الحديث.
- العلاقة بين الثقافات الأدبية تُظهر كيف يمكن للروائيين مثل محفوظ أن يضيفوا براعة جديدة إلى النوع الروائي، مع التركيز على التحرر الاجتماعي والسياسي.
يكاد يكون نجيب محفوظ الروائي الأكثر صراحة بين الكتّاب العرب الذي اعترف بتأثُّره بغيره من الكتّاب، وقال: "لا أعتقد أني قرأت لكاتب من الشرق أو الغرب ثم لم أتأثّر به". وقال في مقابلاته إنه قبل كتابة الثلاثية ("بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية")، قرأ رواية "الحرب والسِّلم" لتولستوي، و"أسطورة الفورسيت" للأميركي جون غولزورذي، و"آل بودنبروك" للألماني توماس مان، و"شجرة البؤس" لطه حسين، وأنه عرف منهم ما هي رواية الأجيال. ورواية الأجيال هي تلك التي يُتابِع فيها الروائي حياة واحدة، أو أكثر، من العائلات التي يختارها بحسب ما يُخطّط في خياله للكتابة عنه.
و"اعتراف" نجيب محفوظ هنا يبدو ملهماً في حقيقة الأمر لكلّ الروائيّين، ومصدر الإلهام فيه هو أنّ الروائي يُشير دون حرج إلى المصادر الروائية السابقة التي كتب روايته في ضوء الطرائق، أو الأساليب، أو الرؤيا، التي اتّخذها كلّ واحد من أولئك الروائيّين، يقول أيضاً: "وجدتُ في توماس مان طريقة السرد الموضوعي التي كنتُ أنشدها، وجذبتني إليه نزعتُه الفلسفية". ثم يقف ما وجده هنا، إذ إنه لم يُحاول، حين بدأ كتابة روايته، أن يتتبّع أي رواية من تلك الروايات التي قرأها، لا توماس مان، ولا تولستوي، ولا غولزورذي، ولا طه حسين.
"القدوة الأدبية" تعبير اختفى من النقد العربي ولم نعُد نقرأه
يُشير ناجي نجيب في مقالته المقارنة المطولة التي نشرها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي عن رواية توماس مان (يسمّيها قصة آل بودنبروك)، وثلاثية نجيب محفوظ، في مجلة "فكر وفنّ"، إلى ما يُسمّيه "القدوة الأدبية"، وهو تعبير اختفى من النقد العربي، ولم يكرّره أيّ ناقد، أو كاتب من بعد، وخاصة بعد انتشار مصطلحات التناصّ وغيرها، من تلك التي لا تفيد التجربة الروائية لأيّ كاتب في شيء. والمؤكّد أنّ جميع الروائيّين العرب وغير العرب، لا يُمكن أن يكونوا قد كتبوا أي رواية من رواياتهم، ولا أن يكونوا قد بدأوا تجربتهم في الكتابة، دون أن يكون قد ساهم في تشكيل ثقافتهم الروائية، فنّياً، أو فكرياً، كاتبٌ آخر، عربي أو غير عربي. دون أن يكون في العلاقة الإبداعية أي منحى قد يحطّ من قيمة الروائي.
ولعلّ الملاحظة القيّمة التي يُقدّمها الناقد هي التي ستحكم نوع تلك العلاقة، إذ حين يُبرز جوانب الاختلاف بين الروائيَّين محفوظ وتوماس مان، يُشير إلى أنّ الروائي الألماني لا يعنى بالجانب السياسي بقدر ما يهتمّ بالجانب الاجتماعي والفكري للتطوّر الذي يصوّره، خلافاً لنجيب محفوظ الذي يربط ربطاً وثيقاً بين التحرُّر الاجتماعي والسياسي.
اللافت في الأمر أنّ تجربة الروائي تُقدّم للنقد، وللقراءة، في آن واحد مثالاً ناصعاً، لا عن موضوع العلاقة بين الثقافات، وأشكال التأثّر والتأثير، وحسب، بل عن مفاتيح الكتابة الحقيقية في المدرسة الروائية الكبرى التي يخرج كلّ جيل فيها من إهاب، أو من معطف جيل آخر، مُضيفاً إلى النوع الروائي براعة جديدة، وليست البراعة في هذه الحالة في الكتابة الروائية، بل أيضاً في الدرس الممنوح بكل اقتدار لجميع القرّاء.
* روائي من سورية