"الأشجار تمشي في الإسكندرية" لعلاء الأسواني: ما صنعته الدولة البوليسية في مصر

13 اغسطس 2024
+ الخط -

في تأويل رواية "الأشجار تمشي في الإسكندرية" للكاتب والروائي المصري علاء الأسواني (1956)، يختلط على القارئ زمنها، لأنّ الإحالات التي تخرج من عام 1964 إلى مصر المُعاصرة كثيرة، وتدفع القارئ إلى الاعتقاد بأنّه صعد آلة الزمن. الرواية عربة، تأخذه إلى بدايات تشكيل الدولة البوليسية.

لكن عندما يُطلُّ من نافذة هذه العربة لن يجد نفسه حبيساً لزمن يُحدّده السرد في أعقاب ثورة عام 1952، وإنّما يشعر أنّه في الواقع الراهن متلوّثٌ بكلّ آفاته. إذ لم يبقَ من مشروع جمال عبد الناصر الوطني والتحرّري إلّا ما صنعته عقلية الصوت الواحد. والرواية قراءة مُعاصرة، وليست مجرّد وثيقة، بل إنّ فيها كشفاً راهناً لواقع الدولة التي يختفي مواطنوها في الشوارع ومن البيوت.

الرواية الصادرة عن "دار هاشيت أنطوان/نوفل" تَقرأ واقعَ مصر بمفردات الماضي، قراءة لا تحمل التباساً. على العكس، لربّما مع إصرار النصّ على تصوير التجربة الناصرية الواسعة بصورة أحادية، يمكن أن يصل القارئ إلى استنتاج يفرضه على رواية الأسواني، استنتاج عن انهيارات مصرية أعقبت ثورة يناير 2011؛ وكأنّما الواقعان (الماضي والحاضر) متوازيان، وكأنّما أحدهما - مع تدخّل الروائي - صار صورةً عن الآخر.

منذ الصفحة الأُولى، نعرف أنّ زمن الرواية هو عام 1964، ومكانها الإسكندرية، بالتحديد مطعمٌ فيها، يرتاده أرستقراطيون قدامى. فالثورة جعلت من عهدهم عهداً ماضياً، ومن تراثهم أطلالاً. والحكاية التي يعرضها الأسواني تحمل وجهةَ نظر هؤلاء الأرستقراطيّين بما قام به عبد الناصر ورفاقه. إلّا أنّ قولاً كهذا عن نصّ الأسواني يَحدّه، لأنّ الرواية ليست عن هؤلاء فقط؛ إنّما عمّا قاوم التساقط مع الزمن من تجربة عبد الناصر. إنّها عن الأسلوب الذي اتّبعته الدولة البوليسية لإنجاز التحوّل الثوري، والرواية سجلٌّ بارع لفهم الدولة التي تُحطّم وجود الفرد خارج الدور الذي تريده منه.

نصٌّ راهن، الماضي فيه مجرّد حيلة سردية لقول الحاضر

تخطر للقارئ، وهو يكتشف مع الأسواني تحوّلات المواطن المصري، الأدبيات الروسية التي رصدت الانقلابات الفكرية داخل الفرد والمجتمع، مثل رواية المسرحي والروائي الروسي ميخائيل بولغاكوف (1891 - 1940) "قلب كلب" التي تتحدّث عن تجربة علمية يُجريها طبيب، بنقل الغدّة النخامية لإنسان وزرعها في كلب. لكنّ الكلب يتحوّل إلى "رفيق" يؤذي الآخرين، يكتب تقارير عنهم، يتدخّل في غير اختصاصه، يعتدي على حدود غيره الشخصية والفكرية والاجتماعية.

وما منع جليل، شخصية الأسواني، من أن يصير نسخةً عن شخصية بولغاكوف، ليس ضعف الأيديولوجيا التي لم تعُد موجودة اليوم - ما يدفعني مجدّداً إلى الاعتقاد أنّ هذه الرواية نصٌّ راهن، الماضي فيه مجرّد حيلة سردية لقول الحاضر - وإنَّما ما منع التصاق الشخصيتين، هي تلك الصحوة التي للإنسان المصري الحضاري. إذ بعد أن اكتشف الخديعة التي وقع فيها، وقد جنّده بدوي خضر لسرقة معمل الشوكولا لصالحه، لا لخدمة مصر؛ كتبَ جليل رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر يشرح له فيها ما يحدث من غير علم الرئيس، وهذا اعتقادٌ مؤكّد لمواطنين يؤمنون بصلاح الحاكم وسوئهم.

لكنّ الرواية لا تعرض فقط هذا التوجّه بصلاح الخليفة وسوء الرعية، إنّما تعرض عبر صفحاتها الـ438 توجّهات عديدة. الجميع فيها داخل حوار محتدم عن مصر، وعن الإسكندرية، بما كانت تمثّله من انفتاح على الثقافات الأوروبية. النصّ برمّته رهانٌ على تغيير حقيقي، ديمقراطي، ينبع من داخل قوى المجتمع.

الشخصية الفارقة التي يمنحها الروائي صوتاً مستقلّاً هي الفنّان أنس الذي يُنجز معرضاً للبورتريه، ونتعرّف بمعونته على إسكندرية أكثر اتساعاً من تلك التي عرفناها في المطعم، ولو أنّ كلا العالمين، الأرستقراطي وعالم القاع، يقودان إلى حقائق أرادها النصّ لضبط السجلّ المسهب للدولة التي تقود بخيوط غير مرئية مصير مواطنيها. والاستعارة التي يقولها العنوان عن الأشجار التي تمشي في الإسكندرية هي قول زرقاء اليمامة "إنّي أرى الأشجار تمشي". حينها اعتقد قومها أنّها خرَّفت، لم يصدّقوها، وكان الأعداء قد غطّوا أنفسهم بأغصان الأشجار، وهزموا قومها. تلك النبوءة بالهزيمة هامت على كلّ النصّ، وهي هزيمة الضمير الأخلاقي العامّ لصالح الضمير الوظيفي الذي فرضته الدولة، وهزيمة الأخلاق المتسامحة المدنية لصالح تلك التي أنتجها العسكر، ما جعل البشر وشاة، لا مواطنين أحراراً.

المفارقة هنا أنّ الدولة هي مَن تقوم بالعمل السرّي، كي توقع بالمواطنين. وهي مفارقة مريرة تُفسّر إلى حدّ بعيد كيف يصير انتقاد الحاكم انتقاداً للبلد كلّها، وكيف تلتصق صورة الحاكم بصورة الوطن، لأنّ الناس جميعهم مراقبون، لأنّ أحداً، لا تعرفه، سوف يشي بك. هكذا، يُصوّر الأسواني أعضاء النادي الذين يجتمعون في المطعم على أنّهم أقلّية من الغرباء المنبوذين الذين يعتقدون قدرتهم على العيش على هامش هيستريا جماعية تقدِّس الرئيس، وتحتكر السياسة والاقتصاد والقيم. الرواية ترصد ذلك الاستيلاء العميم الذي يصيب الحياة، حيث القانون الوحيد هو إرادة السلطة.

معظم شخصيات الرواية مصريون من أصول أجنبية، أحبّوا مصر، وقرّروا البقاء فيها؛ مثل شانتال الفرنسية وتوني اليوناني وكارلو الإيطالي، وهؤلاء أنجزوا أعمالهم، وبنوا خياراتهم كلَّها على أساس متين في داخلهم، وهو حُبّ مصر، إلّا أنّ ما يحدث على امتداد الصفحات سحلٌ علني ومفضوح لذلك الحُبّ الخالص للوطن؛ إذ استغلَّتْ الدولة أصولهم الأوروبية كي تقول إنّهم جواسيس، وكي يعتقد جموع المصريّين أنّ الرئيس يحميهم. ذلك السحل المرير لحُبّ مصر ينتهي بصورة مريرة، بصورة قاسية ووحشية، وكأنّما ما تريده السلطة فقط هو الحق، والبشر لا يملكون سوى الرفض الذي يقترحه الفنّ.

هزيمة الضمير الأخلاقي لصالح الضمير الوظيفي الذي فرضته الدولة

رواية الأسواني تعبيرٌ قوي عن رفض الفنّان، وكأنّها صرخةٌ أو استغاثة أو إعلانٌ عن نهب الحرية. وهي ليست استغاثة تخرج من كهف الماضي، كما يتبدّى لنا في البداية، إنّما هي استغاثة تخرج من حنجرة الحاضر.

في رصيد الأسواني عددٌ من الروايات الشهيرة، وهو ناجح بشكل لافت في بناء صلة قويّة مع القارئ؛ كما في رواياته "عمارة يعقوبيان" و"نادي السيارات" و"جهورية كأن"، وغيرها من الروايات. أسلوبه ممتع، كتابته شيّقة وجادّة، يستطيع بمهارة وخفّة أن يُمسك بالقارئ، ويشدّه إلى عالم يبنيه كمن يرسم لوحة، يُنجز عناصرها عنصراً بعد آخر من غير أن يرتبك قلمه. وهو غالباً ما يهتمّ بالقضايا السياسية والاجتماعية في روايات يُمكن أن تُشكّل تاريخاً حديثاً لمصر. لكنه تاريخٌ مقترن برؤية الأسواني الاجتماعية السياسية، لا بمصر كلها.

ويبقى أنّ أعماله، التي نجحت بين القرّاء نجاحاً أكيداً، مبنية على مركزية ما، أخالها مركزية الكاتب الذي يستخدم شخصياته، كي يعرض مقولته الأحادية. إنَّه يرسم الشخصيات بإتقان ثمّ يلقي بها في إطارٍ مضبوط ومحكم، وهو بهذا مثالٌ للكاتب المحترف  - وهم قلَّة في الكتابة العربية بصورة عامّة - إلّا أنّ هذا الاحتراف الفذّ والمثالي، لا يتيح للواقع أن يظهر بغناه كاملاً، وبفوضاه، ولا يظهر تعدّد الأصوات فيه إلّا بالحدّ الضروري لعقد الصلة مع الواقع. مع ذلك، يبقى علاء الأسواني الكاتب والسياسي والطبيب المصري علامةً فارقة في الكتابة العربية، لأنّه بمشروعه الجاد وصل إلى القارئ واختطفه، وهذه صعوبة قصوى هذه الأيام.

* روائي من سورية

المساهمون