أحمد شوقي.. المعاصرة في البداوة

31 أكتوبر 2021
عباس بيضون - شوقي بين خليل مطران وحافظ إبراهيم
+ الخط -

تبدو كتابة شاعر نثر عن "أمير الشعراء" أحمد شوقي مستهجنة، بقدر ما تبدو من الناحية الأخرى في محلّها تماماً. فأنا طالعتُ "الشوقيّات" التي وجدتُها في مكتبة أبي في فتوّتي، وكنتُ أقرأها مع صُحبة صاروا كلهم شعراء نثر. كان أحمد شوقي من أوائل قراءاتي، كذلك كان أبو نواس والمتنبي وابن الرومي. لستُ الوحيد الذي بدأتُ كذلك، أظن أنّ هذا كان شأن مجايليّ من الشعراء ومن سبقهم إلى القصيدة الحديثة، نثراً كانت أم تفعيلة، فهذه القصيدة، ولو بدا العكس، ليست بلا تراث، وليست منقطعة عن سابقها. قد يعزّ أن أبيّن صلتها به، وقد يستعصي أن أشرح كيف خرجت منه، لكنّ تاريخ الأدب لا يخلو من قفزات، بل يبدو أنه متأهّب دائماً لهذا القفز. لعبة الخيال ولعبة اللغة مفتوحتان على طفرات وشطح دائمين.

قرأتُ أحمد شوقي في مطالع حياتي، لكنّ هذا لم يكفِ، إذ عاودتُ قراءته في مطالع كهولتي، أي بعد أن وجدتُ مساري البعيد وتوغّلت فيه. الحق أنّ قراءتي الثانية كانت هذه المرة في ضوء التاريخ، فقد كان يهمّني أولاً أن أجد موضعها في مسار الشعر العربي، وأي خطوة كانت في تقدّمه وما هو مكانها بالنسبة لسابقها ولاحقها. لست الوحيد الذي يتأمل ذلك من بعد عقود، فالأغلب أنّ معاصري أحمد شوقي فعلوا ذلك وبالحساسية نفسها.

شعراء وقته ونقاده، وقد يكونون واحداً، تساءلوا حتى في ذلك الحين عن مدى معاصرة أحمد شوقي، ولم يكن هذا التساؤل في غير أوانه، فإلى جانب أحمد شوقي كان هناك الأدب المهجري، ومن تصدّوا لشوقي كانوا ضليعين في الإنكليزية وآدابها أمثال عباس العقاد وعبد القادر المازني وميخائيل نعيمة، ولم يصدر تساؤلهم، بل وانتقادهم، عن غيب، فقد لاحظوا مُحقين، في ذلك، أنّ شعر شوقي يبني على التراث ويتطابق معه. لهذا رأوه مصنوعاً بل ومفتعلاً في بعض جوانبه. هذا السؤال كان محقاً في حينه، واليوم وقد ابتعدنا عنه قرابة قرن، وجرت بيننا وبينه محطات كاملة وأنهار حقيقية، لا يزال مطروحاً وإن صارت، مع ذلك، في التاريخ.

ركّز النقد على نزعته التراثية فيما تجاهل المبتكر والرائد

قد يبدو بديهياً الآن أن يتبنى قرّاء أحمد شوقي ملاحظات نقّاده من معاصريه. ذلك أقرب إلى الذهن، لكن هذا قد يحول دون قراءة ثانية لأحمد شوقي. إذا صار شوقي من التاريخ فإنّ التاريخ نفسه يحتاج إلى قراءة ثانية. لم يكن شوقي يُخفي أنه يبني على التراث، بل كان التراث بالتأكيد مثاله ومعياره. لا شكّ أنّه في عدد وافر من قصائده كان يعارض قصائد قديمة معارضة ظاهرة أو خفيّة. لا شك أن طموحه كان في أن يُذكر إلى جانب كبار القدامى. لكنّ الرجل مع ذلك عاصر الاحتلال الإنكليزي لمصر، والغزو الفرنسي لسورية، وحركة أتاتورك في تركيا. كل هذا نفذ إلى شعره الذي لم تكن إسلامويته بعيدة عن التحدي الغربي. 

كما أنّ شوقي كان يتقن لغات أجنبية، وقرأ، ليس بدون تأثر، كورناي وراسين الفرنسيين وشكسبير الإنكليزي، ولا بدّ أنه لحق الرومنسية، ولم يفُته أن يعرف أقطابها، وهو بالذات ناضل الاستعمار في مصر واستحق على ذلك نفياً إلى إسبانيا دام خمس سنوات. لم يكن الرجل إذاً بعيداً عن عصره، لكن هذا لا يكفي حجّة، فإن الماضوية وعبادة التراث لم تكونا حصراً على معزولين عن زمانهم، بل كانتا في أحيان كثيرة من أزياء وأغطية نوع من المعاصرة اختُصّ بنا، وقد تكونان من أبواب المعاصرة أيام أحمد شوقي. 

بيد أنّ إصرار الشاعر المصري على اتباع التراث وإعلانه ذلك، وإصراره عليه في كلّ مناسبة، قد تكون سبباً في وصمه بذلك، من دون محاكمة كافية، إذ إنّ من وصموه بها لم يتوقفوا، بما يكفي، عند كونه كان مجدِّداً في أكثر من باب. سبق إلى ابتكار المسرح الشعري متأثراً بكورناي وراسين، وأحياناً شكسبير، وهو أيضاً سبق إلى شعر الحكايات على ألسنة الحيوانات متأثراً بلافونتين، وقد يكون سبق إلى المطولات التاريخية في الشعر التي توازي ملاحم صغيرة. هكذا نجد، ليس بدون ذهول، أن هذا المبتكِر والرائد قد تجوهل، من كثيرين، ابتكاره وريادته، ووصم، بدون محاكمة وافية، بالانعزال عن زمنه. 

قد تكون نفس حجج  إقصاء شوقي من المعاصرة براهين عليها

نحن إذا أعدنا قراءة مسرح شوقي الشعري، ولنختر "مجنون ليلى" مثالاً، سنلاحظ أن شوقي تأثر بالمسرح الشعري الفرنسي، وكورناي بخاصة، فإشكالية "مجنون ليلى" كما تظهر لدى ليلى هي عين إشكالية كورناي، وهي غلبة الواجب على الحب، فليلى تقدم القيم البدوية على حبّها لقيس، وتختار لذلك، على حبّها له، أن ترفض خطبته كما تحضّ على ذلك القيم البدوية التي ترى في زواجها ممن شبّب بها عاراً.

كورناي في خلفية المسرحية، وكذلك شكسبير الذي استعار منه شخصية بشر الكوميدية. هذا الرجوع إلى هؤلاء لا ينفي أن مرجع شوقي هو العذري بل والبدوي، لأنّ البداوة كثقافة وكلغة هي أفق المسرحية وغطاؤها. لا ينفي ذلك أن البداوة والعذرية تتقاطعان في "مجنون ليلى" مع الرومنطيقية، التي لا شك نفذت إلى شعر شوقي، كما حين نقرأ قصيدة "جبل التوباد" في المسرحية، وحين نقرأ على سبيل المثال:
"وعلى شِعبك عشنا زمنا - ورعينا غنم الأهل معا
هذه الربوة كانت ملعباً - لشبابينا وكانت مرتعا
كم بنينا في حصاها أربعا - وانثنينا فمحونا الأربعا
..........
لم تزل ليلى بعيني طفلةً - لم تَزِد عن أمس إلا إصبعا"

حين نقرأ ذلك في المسرحية لا نزال نشعر أننا أمام رومنطيقية تبني على البداوة، أي أننا أمام شرق بلسان عربي، أمام بداوة نفذت إلى المعاصرة.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون