"وقت" ريم الجندي: لوحتان بحكاية واحدة

15 اغسطس 2021
(من المعرض)
+ الخط -

ريم الجندي في معرضها الأخير "وقت"، الذي أُقيم في "غاليري أجيال" ببيروت بين الخامس عشر من تموز/ يوليو الماضي والرابع عشر من الشهر الجاري، تفاجئنا ولا تفاجئنا. لسنا حيال معرض عادي لها، لكنّنا لسنا أيضاً تماماً أمام معرض مختلف. في العادة تتواشج لوحات الجندي في معرضها، لدرجة أنّها، رغم اختلافها، تمتّ إلى موضوع جامع، بحيث أنّنا نشعر أنها تتواصل رغم أن كل واحدة منها تستقلّ بنفسها، إلّا أنّنا نحس أنّ ما يشبه لوحة واحدة تكاد تختفي وراء اللوحات كلّها. نحس، على الأقلّ، أنّ ثمّة قربى بين اللوحات، وكأنها، جميعها، تشترك في الرواية ذاتها، كأنها في اجتماعها تجعل المعرض روايةً واحدة، أو مشتركة على الأقلّ. في معرض الفنّانة اللبنانية الجديد قد يفوتنا، ونحن نشاهد، هذا الإحساس بالاشتراك في الموضوع أو الحكاية.

قد يفوتُنا ذلك، لأوّل وهلة، لكن الإمعان في النظر قد يعود بنا إلى الانطباع نفسه. لأوّل وهلة، قد نشعر أنَّ العاريات اللواتي يتّخذن أوضاعاً خاصّة في عدد من اللوحات، يتّخذن ركناً خاصاً لأنفسهن، وأنّ المعرض قد يكون لذلك مُشكَّلاً من لوحتَين، أو، بكلمة أُخرى، موضوعَين. لكنّ نظرة ثانية وتمعُنّاً في اللوحات، قد يردّاننا إلى الإحساس مجدَّداً بمقدار القربى، أو الوشائج بين لوحات المعرض. إنَّ شيئاً من داخل اللوحات يقول إنَّ ثمّة مسحة مشتركة، وشاغلاً جامعاً، بل وعَيْناً واحدة بين مختلف اللوحات. يعاودنا لذلك الشعور بأنّ الأشكال والخطوط والأضواء تتحاور في ما بينها، وأنّ اللوحات تكاد تتنادى أو تتداعى، وأنّ المعرض لذلك، شأنه شأن كلّ معارض الجندي الأخيرة، ما يمكن اعتباره تتالياً، أو تواصُلاً، أو مناخاً واحداً. أنّ لهذا المعرض أيضاً حكايته الجامعة.

يبدو العُري في لوحة الجندي عادةَ الجسد أو طلّته الأولى

يمكن أن نبدأ الزيارة من عاريات ريم الجندي، فمن هنا قد تبدأ الحكاية، أو على الأقلّ قد يكون هذا واحداً من فصولها. الانعكاس الذي يتركه هذا العري المرسوم غالباً بالرمادي، أنّه عادي لدرجة يبدو معها منزلياً، ولدرجة يبدو معها عادياً وطبيعياً ويومياً، وكأنه عادة الجسد أو طلّته الأولى. لا يضيء العري الرمادي الجسد ولا يشع منه، ولا يمتلئ بالرغبة أو الشهوة.

الجسد، رغم عريه، أقرب إلى أن يكون في مباذله، وفي يومياته وعاداته. العري من هذه الناحية يكاد يكون أليفاً وبيتياً، حتى ليكاد يبدو وكأنّه قماشة الروح. يكاد يكون في رماديته وابتذاله عري النفس. لا نكاد، من هذه الناحية، نفرّق بين العري واللبس، إذا انتبهنا إلى أنَّ العري لا يرد على الإطلاق وحده، إنه يَرِد دائماً ومقابله، في خلفيته على الأغلب، شيء آخر. ليس العري وحده هو الذي تصحبه هذه الخلفية، فثمّة وراء كل شخص أو أشخاص عراة، أو مرتدين، هذه الخلفية التي هي غالباً زخرفية، أو أيقونية، أو منمنمة.

الصورة
ريم الجندي - القسم الثقافي
(ريم الجندي)

إذا تذكَّرنا الرمادي الذي يلوّن الجسد العاري، أو الأجزاء الظاهرة من الجسد المرتدي، إذا تذكَّرنا المرأة العارية الواقفة أمام ما يشبه أشخاصاً منقوشين، بما يشبه رسوماً سجادية على نحو زخرفي. في المقابل إذا تذكّرنا المرأة اللابسة ثياباً ملونة، ووراءها ما يشبه "خربشات" ساذجة. إذا تذكّرنا المرأة على ماكينة الخياطة، وخلفها نمنمة زخرفية، أو المرأة الجالسة على شرفة تحت منمنمة، تكاد تكود للواسطي، معلّقة فوقها، والصورة الثلاثية، من رجل وامرأة وطفل، أمام زخرفة سجادية. لدى ذلك نتذكّر أنَّ عاريات ريم الجندي ولابسيها، لا يُرسمون وحدهم ولا يستقلّون بصورهم. إنهم دائماً أمام خلفية أيقونية، أو منمنمة، أو مزخرفة، أو "مخربشة". عدا لوحة واحدة لأشخاص غارقين في ما يشبه السواد، فإنَّ لوحات ريم مزدوجة من الأشخاص وخلفياتهم الزخرفية أو الأيقونية.

إذا قابلنا بين الأشخاص وخلفياتهم فإنهم بالرمادي الغالب عليهم، وإن حاد إلى الرصاص أو شبه الأسود، هناك لوحة واحدة تتفجر فيها ألوان الثياب، لكنّنا في أغلب المرّات نشاهد أشخاصاً في درجة من العادية والذبول، ومن الواضح أنهم يتواترون في ما يشبه قصّةً عائلية، وإن المرأة - المركز في اللوحات قد تعود إلى الفنانة ذاتها، وقد تكون لذلك تحويراً لبورتريه شخصي. غير أنَّ الزخرفة الخلفية، تبدو وكأنها بألوانها القوية أحياناً، أو بخربشاتها وخطوطها، تكاد تُكمل قصة بدأت مع شخصية - المركز. إنها إزاء صمت الشخصية وتقليدية وضعتها أحياناً، النقيض المتكلّم والمندفع والصاخب. إنها جريان حياة مقابل الشخصية المنزلية العادية التي تتموضع أمامها.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون