"أيام كانط الأخيرة": كي لا نبدأ من الصفر دائماً

10 يناير 2020
بورتريه كانط لـ رونيه بولنغر
+ الخط -
بالنظر إلى مركزيته في تاريخ الفكر المعاصر، جرى الاحتفاء بسيرة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804) على مستوات عدة، منها الدراسات التاريخية في مختلف محطات حياته وسياقاتها السياسية والثقافية، أو تحقيق مخطوطاته على ضوء مناهج حديثة، إضافة إلى الكتابة البيوغرافية التي تراوح بين التأريخ كممارسة قريبة من المواد التوثيقية والرواية التي تلامس التخييل في عدة مواطن.

من أشهر الأعمال السيرية حول كانط ما وضعه الكاتب الإنكليزي توماس دي كوينسي (1785 - 1859)، خلال القرن التاسع عشر، على الرغم من أنه اقتصر على الأيام الأخيرة من حياته، وهو عمل صدر مؤخراً عن منشورات "مسكلياني" و"صوفيا" بعنوان "أيام إيمانويل كانط الأخيرة"، ونقله إلى العربية المترجم الليبي عبد المنعم المحجوب.

في حديث إلى "العربي الجديد"، يشير المحجوب إلى أن مشروع ترجمة هذا العمل بدأ منذ سنوات، تحديداً حين كان يشتغل على ترجمة عمل فكري لكانط نفسه بعنوان "من أجل سلام أبدي" (صدر عن دار الأصالة والمعاصرة بطرابلس).

يقول: "كنت مهتمّاً بسيرة هذا الفيلسوف، فتعرّفت على المئات من العناوين التي تحدّثت عن حياته، لا عن فلسفته فقط، وقرأت العديد منها، وكان من بينها ما كتبه دي كوينسي، ولقد رغبت منذ ذلك الوقت في تقديم هذا العمل باللغة العربية، ليصدر الكتاب هذا العام".

يضيف: "يمكنني القول إذن إن علاقتي بكانط قادتني إلى دي كوينسي، ومن هذا الكتاب انتقلتُ إلى أعمال أخرى تركها هذا الكاتب، منها "الراهبة الأسبانية"، ومذكراته حول الأفيون التي أثارت سخط الإنكليز عنما نشرت للمرة الأولى، وقوبلت بنوع من الاستياء".

وحول خصوصيات نص دي كوينسي، يقول المحجوب: "هو كاتب متعدّد الأساليب، فهو لا يُلزم نفسه بسياق أسلوبي واحد، ولعل هذا أول ما يميزه بين الكتّاب الإنكليز". يفسّر محدّثنا ذلك بكون دي كوينسي كان في نفس الوقت "كاتباً، وصحافياً، وباحثاً، وروائياً، ورحّالة، وفيلسوفاً، وهذا اللقب - أي الفيلسوف - كان أفضلها إليه، وأنت تجد أحياناً مختلف الأساليب مجتمعةً أحياناً في نصّ واحد لا يفصل بينها سوى غلالة شفافة رفيعة هي شغف دي كوينسي بقول كل شيء وعدم إخفاء أو حجْب ما يتوقّع أن القرّاء قد يسألونه عنه، وكان عادةً ما يترك موضوعه حتى وهو في أشدّ اللحظات دراميّة ليوجه خطابه إلى القرّاء فينبّههم أو ينصحهم أو يستشيرهم".

وحول حضور شخصية كانط في الثقافة العربية اليوم، يقول المترجم الليبي: "ثمة طبقات عديدة يمكن أن يتمثّل فيها حضور كانط في الثقافة العالمية، أما عربياً فإننا نكتفي بكانط الفيلسوف، وما زلنا نضفي على "نقد العقل المحض" و"نقد العقل العملي" هالةً مضيئةً من التميّز، فهو عتبة الخروج عن التفكير الميتافيزيقي الذي يغلّف رؤيتنا للعالم والأشياء والآخر. منذ كانط أصبح للمطلق، والمعرفة، والوعي، والأخلاق، والجمال، والإرادة، والدين، والضمير، وغير ذلك من المفاهيم معان جديدة لم تكن الفلسفة العربية لتجرؤ على ملامستها قبله، والأمر يتكرّر باستمرار كأن أفكاره قد ظهرت للتو لكي تلبّي حاجتنا إلى إعادة التفكير. ضمن ثقافتنا العربية، نحن مولعون بالعودة إلى الصفر، أي إلى تأصيل الأشياء والبدء دائماً من الجذور في حركة دائرية تعيد الزمان إلى أوله كلما شرعنا النظر إلى المستقبل، لهذا السبب فإننا ما زلنا في حاجة إلى كانط لنعيد التفكير في المفاهيم الأساسية التي تنتظم بها الحياة وتعطي للتوافق بعداً تعاقديّاً دائماً".

المساهمون