يوم دمشقي طويل
حذرت إدارة الأرصاد الجوية من التجول ما بين الساعة الثانية ظهراً والرابعة عصراً من هذا اليوم التموزي الذي سيشهد ارتفاعاً حاداً في درجات الحرارة.
في الثامنة صباحاً أعداد قليلة من الناس تنتظر على مواقف المواصلات العامة، المدارس بدأت عطلتها الصيفية الطويلة، وطلاب الجامعات توقفوا عن الذهاب إلى الجامعة إلا في أيام الامتحانات، والعمال والموظفون خرجوا من بيوتهم منذ السادسة لتأمين واسطة نقل عامة قبل سواهم لأن تأمين المواصلات بات يشبه معركةً الفوز فيها لمن من يبادر في الهجوم أولاً. إذا الغياب هو سيد الموقف في دمشق اليوم، والغياب يطاول وسائط النقل وسيارات التكسي وحتى السيارات الخاصة.
يبدو أن الرسالة المحذرة فعلت فعلها في خضم التعب المزمن والخوف من انقطاع كل شيء! أهي ذريعة لنيل راحة مفتقدة؟ أم تجربة للالتزام بتوصيات مسؤولة تبالغ في ادعاء الحرص على سلامة رؤوس مواطنيها من الشمس الحارقة وكأنها مصدر الخطر الوحيد الذي يهدد تفاصيل حيواتهم.
وحدها الأسواق الشعبية تعاكس التحذيرات وخاصة الرسمية، تراوغها وقد تسخر منها، في سوق الخضار تتباين الأسعار بشدة ما بين بائع وآخر، حركة البيع والشراء قليلة جداً، والكميات المشتراة قد لا تتجاوز بضع حبات من البندورة أو الخيار وحتى الكوسا والباذنجان والفليفلة والبطاطا كلها باتت تشترى بالقطعة! كولاج لوني غذائي محشور في كيس واحد أو كيسين ويبقى السؤال الأخطر، إلى متى سنستطيع تحمل كل هذا الغلاء وهذا الارتفاع المستمر في الأسعار؟ لا أحد يعرف! وأنت تأكل حبة من الخيار تشعر وكأنك تأكل نقوداً لا خضارا! تباين في أعداد الأكياس وأحجام محتوياتها، وحدها الأفران تحافظ على ازدحامها الخانق، وأكياس الخبز في ايدي الناس هي العلامة الوحيدة على الأمن الغذائي الذي صار مجرد رغيف من الخبز.
ترتفع وتيرة الحضور البشري في الشارع، إنها الحادية عشرة صباحاً، بات من الضروري إعداد وجبة الغداء، تخلى الدمشقيون عن التخطيط المسبق لأسماء طبخات الغداء اليوم، السوق وحده يفرض شروطه، الأرخص ثم البايت والذابل الأكثر رخصاً، وعند الساعة الثانية ظهراً، يبدأ البحث عما لم يبع، عما يرميه الباعة كباقات البقدونس والحشائش الخضراء التي صارت صفراء بلون وجوهنا المذعورة من الارتفاع المستمر للأسعار، لا تتردد النسوة بأخذ كل ما هو مرمي قرب الحاوية أو على أطراف بسطات الخضار، لا يترددن أبدا في مفاصلة البائعين لكسب سعر أقل مقابل كمية أكبر.
تفاصل سيدة بائع الخضار على سعر محدد للكوسا والباذنجان والبصل والبندورة والبطاطا والفليفلة الخضراء، يوافق على كل الأنواع عدا الفليفلة لأن سعرها اليوم تجاوز الألف والخمسمائة ليرة، ويشترط أنه سينتقي لها على طرحة خاصة كل ما يظنه مناسبا للسعر الذي فرضته، توافق مذعنة، تترك جانباً بعض القطع وخاصة من البندورة لأنها خربة وحموضتها الواخزة ستفسد الطبخة برمتها، تشتري سبعة كيلوغرامات وتضعها في كيس واحد، تسدد الثمن وتعود لتترجى البائع ليمنحها قطعة فليفلة واحدة لتنكيه الطبخة، يوافق مذعناً أيضاً، يعطيها أربع قطع لكن نصفها متآكل تماماً.
يخرج أبو عدنان من بيته ومحرمة قماشية مبللة بالماء على رأسه، سمع التحذير وفهمه جيداً، لكنه يريد شراء بطيخة حمراء تبل القلب وتطفئ نار الحر، يسير ببطء، طالما عانى من غش باعة البطيخ على الطنابر حين يطلب منهم اختيار بطيخة حمراء بوزن لا يتجاوز الخمسة كيلو وتوصيلها له إلى بيته في الطابق الرابع، يحلفون أيماناً عظيمة بأنها حمراء وبأن وزنها تجاوز الستة كيلو غرامات بحجة أن البطيخ الصغير غير ناضج أصلا، ليكتشف فور مغادرتهم بأن وزنها أقل مما دفع ثمنه وأنها بيضاء أو عجرة، لذلك قرر اليوم شراء بطيخته الأثيرة بنفسه بعد أن سمع بأن سعر الكيلو منها قد قارب الستمائة ليرة وهو سعر محمول نسبياً.
يشتري بطيخة على السكين، يسعده جداً لونها الأحمر النضر، يبل محرمته القماشية من صنبور محل الخضار فقد تبخر ماؤها بسرعة، يحمل البطيخة بكلتا يديه، يكاد أن يصل إلى بيته، تفلت البطيخة من بين يديه المتعبتين، يصرخ، يتفقد خسائره، رض بسيط أصاب البطيخة لكن القطعة المحزوزة على السكين تقع أرضاً، يتلقفها فتى يجمع القمامة، يلتهمها دونما استئذان، يشكر الفتى أبا عدنان وكأنه قدمها له طوعاً.
في البيت تنقل صباح خبر التحذير من ارتفاع درجات الحرارة إلى ابنتها، توسمت صباح خيراً بهذا التحذير وقررت استخدامه ذريعة لتأجيل شراء حذاء رياضي لابنتها، لكن الابنة تعاند وتبكي، يُسقط في يد صباح! لن تتمكن من ثني ابنتها عن التسوق لشراء هذا الحذاء، لكنها تراوغ، توافق بشرط أن تشتري ابنتها الحذاء من أول محل بذريعة الحرص على سلامة الأم والابنة، توافق الابنة وتضحك صباح لأنها في سرها تخطط بأن تتوقف عند أرخص محل لبيع الأحذية وسترغم ابنتها حينها على شراء المتوفر والأرخص وليس الحذاء المرغوب.
ثمة تضارب في حال الأسواق في الأيام الحارة، تنخفض الأسعار وتبرد في ذروة الحر، البيع بسعر أقل هو الأوفر، يهاود الباعة في الأسعار، عليهم بيع البضاعة بسرعة كي لا يخسروها، كما عليهم العودة باكراً إلى بيوتهم، لأن ضربة الشمس تعني المرض والغياب عن السوق وفقدان مصدر العيش.
إنها الثانية ظهراً، ينادي زياد طفلاً اعتاد أن يساعد الباعة في توضيب بضاعتهم، يبدأ يوسف عمله بجد، يطلب من زياد عنقود عنب، يرفض زياد بشدة، يراوغ يوسف ويأكل حبات العنب في خلسة عن معلمه، يُسقط دراقة على الأرض ويدفعها بقدمه نحو زاوية الرصيف وعند مغادرة البائع مع بضاعته، يتناولها، يمسحها بكنزته ويأكلها بسرور بالغ.
تقول لي أم أحمد إنها تعرف تماماً من يسرق خضارها، ومن يملأ أو تملأ كيسها وتمضي دون دفع الحساب، تبرر للبعض لكنها ترفض أسلوبهم لأنه استخفاف بحضورها وفطنتها، لكنها تدافع عن حقها إذا كانت المادة المسروقة فاكهة، ثمة نظرية ظالمة تعتبر أن الفاكهة بطر، قد يسامح البعض سارق/ة أو كوسا أو بندورة، لكنه لن يسامح أبدا سارق عنقود من العنب أو كيلو من المشمش.
في الأسواق، لدرجات الحرارة مظاهر تختلف عن البلاغات الرسمية، في الأسواق الكل يخاف الارتفاع وخاصة الأسعار، والتحذيرات الرسمية مجرد بعبع هش أمام أوجاع مدينة تداري جراحها المثخنة بادعاء الصبر والصمت.