حضور النساء والبيوت في رحلة العودة
في كل المناسبات السوريّة تحضر الأغاني، الأهازيج، الزغاريد والصور والفيديوهات. احترف السوريّون والسوريّات الاحتفال على طريقتهم الخاصّة، حاضرون فورًا، المخيّلة فيّاضة واللغة مطواعة، هكذا تكتمل الصورة، لا أحد يؤجّل احتفاله مهما كان بسيطًا ولا أحد يمنع نفسه عن مؤازرة الآخرين بالاحتفال، وإن اختلفت الطريقة. قراءة مستعجلة للتبدّلات الطارئة التي حصلت في بعض المدن السوريّة، وبغضّ النظر عن تحليل سياق المجريات، حضرت النساء بشكل كبير وواضح وخاصّة في الفيديوهات المصوّرة والصور الواردة عن الأشخاص العائدين إلى بيوتهم وقراهم حتى لو كانت أطلالًا مهدّمة.
غالبيّة العائدين كانوا يخاطبون بيوتهم وقراهم وأوابد ذويهم، بلهجة عاطفيّة ومحبّبة حتى غدت البيوت وكأنها الحبيبة المهجورة منذ سنوات طوال، خاطب العائدون عند وصولهم إلى بيوتهم وحتى وهم في طرق العودة المأمولة والمنتظرة من سنوات طويلة، خاطبوا أمهاتهم بشكل خاص المنتظرات منذ سنوات، وكأن العودة الأولى والأجمل هي العودة إلى أحضان الأمهات قبل كل شيء. غالبيّة الصرخات الممزوجة بالدموع كانت: (هي رجعنا يا أمي)، و(وينك يا يوم؟). أو تلك العبارة الأجمل التي قيلت في عشق المدن والقرى والبلدات: (إيش عليه؟ مو مدمّرة!! بس قبلان وبحبّها).
ترتبط ذاكرة السوريّين والسوريّات بالغياب بشكل أصيل، لقد منح الغياب الطويل والهجرة المستمرّة للسوريّين وخاصّة في تغريبتهم الأخيرة منذ عام 2011 تقاليد خاصّة في التعامل مع تفاصيل الغياب
ترتبط ذاكرة السوريّين والسوريّات بالغياب بشكل أصيل، لقد منح الغياب الطويل والهجرة المستمرّة للسوريّين وخاصّة في تغريبتهم الأخيرة منذ عام 2011 تقاليد خاصّة في التعامل مع تفاصيل الغياب، يربّون الشوق، يغذّونه بالأغاني، بالحكايات والصور. يبدو خزّان الذاكرة ممتلئًا بل وفائضًا بكل ما يختزنه من تفاصيل، باتت إرثًا متأصّلًا في الوجدان وحاضرًا في كل لحظات التواصل، وفي ساعة اللقاء يفيض الخزّان بكل مكنوناته مترافقًا مع فيض العاطفة المشبوبة والمتأجّجة في تلك اللحظة المنتظرة بكل الشوق رغم ما يلفّها من ألم الخسارات والخوف من تكثيف الفقدان أو تجدّده.
يرسل أحد العائدين إلى بيته رسالة جميلة وموجعة، حنونة ودافئة، إلى زوجته، صائحًا ومردّدًا أكثر من مرّة: (يا مرتي، يا مرتي) يطمئنها على جدران بيتهم وأبوابه ونوافذه، الفيديو فيه من البساطة والحميميّة والفاجعة الكبيرة التي انحفرت في قلوب السوريّين بعد هجرهم لبيوتهم أو تهجيرهم منها في الحقيقة، هذا الفيديو رسالة للبيوت، للبلاد، للنساء اللواتي كنّ في مقدّمة المخاطَبات، في مقدّمة من تمّ توجيه الرسائل السعيدة والتهنئة والتطمين بالعودة إلى البيوت المهجورة رغمًا عن أصحابها وعنها أيضًا، البيوت التي هي عبارة عن مكامن الحب والأمان والسعادة القصوى والتي لم يعوّضها لا سفر، ولا اغتراب ولا لجوء في أي بلد كان.
كل الذاكرة المشحونة بالألم، تستسلم للفرح، يختبئ القلق في زاوية بعيدة لكنها حاضرة، يتلصّص على لحظات ضعف تغزو أصحابها الفرحين ويهاجمهم، لكنه سريعًا ما يخسر المعركة ويلوذ من جديد بزاوية معتمة استعدادًا لعمليّة كرّ جديدة.
ثمّة التزام مزمن بحضور النساء في تلك اللحظات، تدور الزغاريد في الأفواه دون سؤال، خاصّة في فيديوهات عودة الأبناء، رغم كل التشابه في تفاصيلها لكن الوجوه تتفنّن في إظهار خصوصيّة عواطفها. لا تشبه وجوه الأمهات بعضها في تلك اللحظات وإن تشابهت القلوب، حتى اللغة تثبت فرادتها هنا، يظهر الإرث اللغوي كعلامة فارقة ثمّة احتفالات صامتة مبلّلة بالدموع، وثمّة عبارات سلسة، غزيرة، تنهمر بدلًا من الدموع، فتسيل دموع الجميع. في مواسم التهجير والترحيل يعلّق السوريّون والسوريّات قلوبهم على أبواب بيوتهم، وفور عودتهم إليها يستعيدونها، والإرث الاحتفالي حيّ يرزق ينبض بالصور والأغنيات والقصائد.
هي البيوت حاضرة ما حضرت النساء، هي البيوت ظلّنا على الأرض وموعدنا مع العودة.