المواجهة الأولى مع سقوط النظام

20 ديسمبر 2024
+ الخط -

"كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة".

يبدو هذا القول متطابقًا مع أحوال السوريات والسوريين المُحتفلين بسقوط نظام الأسد اليوم. إنّها المواجهة الأولى مع حدثٍ لم يكونوا قادرين على تخيّله، فكيف سيصدقونه؟

الدهشة عبارة غير كافية لوصف الوضع في سورية اليوم. فما يحدث يستحق توصيفًا احتفاليًا يليق بالحدث، حيث علت الزغاريد ورقص الجميع في الشوارع، نساءً ورجالًا وأطفالًا، لكن تفاصيل العنف المخفية، حتى وإن عانت منها الغالبية، وحتى لو كانت تُنقل بصمتٍ ورعب على الألسن سابقًا، فقد ظهرت بعد سقوطه بأسوأ وأبشع من كلّ التخيّلات المُمكنة.

لم تكن السوريات/ السوريون جاهزين لتكوين صورة حقيقية عمّا يحصل في المعتقلات الكثيرة جدًا. ففي أعماقنا البشرية، ثمّة قرارات خفيّة تبرّر لنا الهروب حتى من المعرفة، معرفة ما يحصل وما يدور في العتمة، حتى ما كان يحصل في الضوء مرعبًا ويستحق التعميم والتصريح والتناقل. الاستبداد يربّي الخوف كما الصمت، فقط لتهرب الناس طواعيةً عن مشاركة الضحايا أخبار موتهم، قهرهم، عجزهم.. والمطلوب الآن ليس التفجّع بل رفض كلّ منظومة استبدادية قبل استفحال بطشها وتعميمه وفرض تقبّلها، وكأنّ المعذبين والضحايا يستحقونّ كلّ ما جرى ويجري معهم.

تتشابه أفعال الطغاة في كلّ البلدان، لكن يصعب، وبشدّة، تبني وتصديق هذه الأفعال، فقط لأنّ العقل البشري يعجز عن التقبّل. لكن الحقيقة هي أنّ الرعب الكبير المعلن، والرعب الخفي المُختبئ وراء الرغبة بالنجاة، يجعلان جميع المستنكفين حتى عن التصديق يظنون أنّ إنكار حقيقة يعرفونها، وربّما ينكرون وجودها، كاف لتكتمل حياتهم بسلام. يظنون أنّ النجاة متوفّرة وممكنة، طالما أمعنوا في صمتهم وإنكارهم.

الاستبداد يربّي الخوف كما الصمت، فقط لتهرب الناس طواعية عن مشاركة الضحايا أخبار موتهم، قهرهم...

ما يحدث مع السوريين والسوريات في مواجهتهم الأولى مع زوال حكم عائلة الأسد هو صدمتان متوازيتان، فيهما عنف شعوري كبير وفرح غزير ونادر. والأبشع في هذه المواجهة هو التعرّف إلى حقيقة نظام الأسد التي رأيناها في وجوه المعتقلين الأحياء، بأجسادهم الواهنة الضئيلة، والذاكرة المشوّشة، بل والغائبة والمفقودة كما يريد الاستبداد لكلّ من يحكمهم. في المعتقلات، رأينا أطفالًا وقفوا على عتبةِ الزنزانة صامتين ومذهولين، يتعرّفون على حدثٍ جديد، حدث لا يفهمونه إطلاقًا، ووجوه غريبة رغم سعيها لإنقاذهم، لكنها لا تعني لهم شيئًا.

سيقول البعض لأبنائهم نحن نعرف كلّ هذا! سيقول العديد منهم أنهم كانوا يعرفون كلّ شيءٍ بحكم وجودهم في مراكز حسّاسة أو مقرّبة من النظام. هؤلاء بالتحديد أبعدوا أبناءهم عن الحضور العام، منحوهم امتيازات معيّنة، وربّما كثيرة، بفضل وجود ذويهم بالقرب من السلطة، لكنهم في الوقت نفسه أبعدوهم بشدّة عن الحيّز العام لأنهم يدركون الأخطار الحقيقية والموت القريب من الجميع بمجرّد سؤال ما. في دول أنظمة الاستبداد، يختار البعض إنكار الحقائق وتجاهل معرفتهم بها، لأنّ المعرفة بحدّ ذاتها لها فاتورة مُكلفة، يسدّدها ليس الناطقون بها فحسب، بل وحتى العارفون الصامتون.

المواجهة الأولى التي تلت سقوط الطاغية كانت عبر إطلاق سيل طويل ومُتسارع من الشتائم والاتهامات والأوصاف التي تحطّ من كرامة الطاغية وتصفه بما يستحق من أوصاف مُهينة، لكنها بليغة. بدا الكلام حينها وكأنّه بركان ضخم ثار لوهلةٍ من حلمٍ أصيل، بعد أن ظلّ كامنًا حتى شكّل صخرةً كبيرة صلدة، تضغط على القلوب!

كانت العبارة الأكثر تداولا "ما عم صدق"! نعم إنّ سقوط الطغاة أمر لا يُصدّق. وحين يُصدّق تصمت الحناجر، لكن القلوب تصدح بكلّ مخزونها، والأجساد تضطرب حركاتها إلى درجة أنّنا، وإن دققنا النظر، نرى الناس وكأنّهم أمواج بحرية متمايلة... لحظة لا تُصدّق تجعل الحركة الطبيعية فورانًا وتمايلًا، وكأن الأجساد تكرّس مظهرًا واحدًا، ألا وهو الانطلاق نحو اللحظة التالية، لحظة الخلاص.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.