يوميّاتٌ في كوكبٍ رث
منظرُ المائة ألف ليرة الجديدة التي أصدرها مصرف لبنان أخيراً، استطاعَ أن يدفع بالدموعِ إلى عينيّ. تصوّر أن تُبكيك ورقةٌ نقديّة! يا لفصاحةِ مظهرها الذي يخبر كم أنّ وضعنا مزرٍ، وبالرغم من تردّيه ما فتئ يتقهقر: اقتصادياً، جمالياً، فنّياً، معنوياً ووطنياً. ما أبشعها في تعبيرها عن كلّ هذا دفعةً واحدة. ما أقبح بلاغتها واختصارها لكلِّ المشهد بهذا التفصيل الصغير.
تكادُ المائة ألف ليرة، والتي تُساوي فعلياً دولاراً أميركياً واحداً، أن تكون رمزاً. أُقارنها بعملاتِ طفولتي، ليس من بابِ القيمة فقط، حين كانت المائة ليرة تساوي أجر موظّف، بل أيضاً من حيث جمال التصميم، وجودة ورق البنكنوت. أُقارنُها بالخمس ليرات الخضراء التي كانت، والعشر ليرات البنفسجية، والأحبّ إلى قلبي الخمس وعشرون ليرة عسلية اللون لأنّها كانت تصوّر "قلعة المسيلحة" الشهيرة في شمال لبنان، والتي باتَ وجودها اليوم مُهدّداً بسدٍّ للمياه بُنيَ تحت أنفها مباشرةً، متجاهلاً إلى جدواه، وجودها الأثري القيّم!
أهذه عملة وطنية من المفروض أن نعتدَّ بها كمواطنين؟ أكادُ أخجلُ من إظهارِها لموظفةِ الصندوق في السوبرِ ماركت، والتي أعادتها لي، منبّهةً إياي إلى أنّها "المائة ألف ليرة الجديدة" وليستْ، كما ظننتُ عندما دفعتُ بها لأحاسبها، من فئةِ الألف ليرة التي نعرفها.
حقاً؟ أتفحّصُ الورقة، فأجدُ أنّها فعلاً.. ورقة! أقارنُ بينها وبين الألف ليرة المُتداولة حالياً، والتي قيل إنّها ستُسحب من الأسواقِ بالتدريجِ لانتفاءِ قيمتها، فأصعق: فالعملتان تكادان لا تختلفان إلّا بمليمتراتٍ قليلةٍ من حيث القياس، وعدد الأصفار العصي على الاستيعاب لمن هم مثلي يُخطئون بسهولةٍ في الحساب، والتي باتَ التدقيق بأعدادها ضرورةً للتأكّد قبل الدفع. أتفحّصها وأقلّبها بين يديّ: ورق أقل. كلفة أقل وأصفار أكثر، أمّا القيمة؟ أأنا بحاجةٍ للشرح؟ ماذا عن التصميم؟ لا أعلم حقاً إنْ كانَ هذا المرسوم عليها كوز صنوبر أم سيخ شاورما!
هذا بلدنا؟ صحيح. البلدُ المريض، لم نستطع شفاءه بالرغم من كلِّ محاولاتنا. بلد أشبه بالزومبي: موجود وغير موجود
نظرتْ إليّ موظفة الصندوق وحين رأتْ عيوني الغاضبة، ابتسمتْ ابتسامةَ تواطؤٍ، وهي تقولُ كمن يعزّي نفسه: شو فينا نعمل؟ يلا.. هيدا بلدنا!
صحيح. قلتُ لنفسي. هذا بلدنا. ما الذي باستطاعتنا أن نفعله بعد؟
بقي السؤال مُعلّقاً كعلامةِ استفهام في الفضاءِ وأنا أعود إلى بيتي محمّلةً بأكياسٍ بلاستيكيةٍ سميكةٍ لم يعدْ بالإمكان إيجادها ربّما في أيّ مكانٍ آخر في العالم. أكياس بلاستيكية تزنُ أحياناً أكثر من البضائع التي تحويها لسماكتها. أكياس بحاجةٍ إلى قرونٍ للتحلّل في الطبيعة، كما قد يقول لك أيّ خبيرٍ بيئي.
إحساسٌ عميقٌ بالتفاهةِ يجتاحني. تماماً كتفاهةِ هذه العملة التي لم يعدْ حتى المواطنون يفضّلون التعامل بها. تسأل موظفةُ الصندوق في السوبر ماركت التابع للجيش الزبونة بعدي: دولار أم لبناني؟ تقصد بأيّ عملة تفضّل الدفع؟ تُجيبها الزبونةُ بحزم: دولار. في أيّ بلد تسمع هذا السؤال وهذا الجواب؟
هذا بلدنا؟ صحيح. البلدُ المريض، لم نستطع شفاءه بالرغم من كلّ محاولاتنا. بلد أشبه بالزومبي: موجود وغير موجود.
تتسقطُ خبراً جيّداً قد يرفعُ معنوياتك. لكن كلَّ الأخبار والمقالات تنتهي قراءتها بتنهيدةٍ. حتى تلك التي يسعى كاتبها إلى بثِّ بعض الأمل. تنتعشُ للحظةٍ بفضله، لتقضي بقية الأخبار على بصيصِ ذاك الأمل.
جغرافيا تبدو خريطتها للرائي من بعيد ثابتة، لكنّها في الواقع مجرّد سراب
تقرأُ الجريدة، فتشعرُ بأنّك مطعونٌ في ظهرِك، مصفوعٌ على وجهك، مغدورٌ بك في شؤونك العامة، مستخفٌ بكيانك، يُسمح لك فقط بأن "تبعط" قليلاً للتنفيسِ من وقتٍ لآخر، لكي يصبح بالإمكان أن تتحمّل المقبل من التدهورِ الإضافي. وهو لا شكّ مقبل.
الحالةُ الرثّة للبلاد منذ سنوات لم تكن قادرة على إصابتي بالإحباط. كانت تبثّ بي غضباً يدفعني إلى فعلِ ما كنتُ أظنّ أنّه وسيلة بين وسائل أخرى للتغيير، أي الكتابة. يا لتفاهتي وغروري. كما لو أنّ الكتابة وبعض القرّاء الذين يتابعون ما تكتب يكفون للتغيير.
إحساسٌ عميق بالخديعة تنتهي به عادة قراءتي اليوميّة للجريدة، ومنذ وقتٍ طويل. أكانت أخبار فلسطين الرهيبة التي نعوّض بصمودِ مقاومتها قليلاً عن أحزاننا، إلى أخبارِ بقيّةِ هذا الوطن العربي المُتفتّت. سورية، العراق أم أخبار لبنان؟ جغرافيا تبدو خريطتها للرائي من بعيد ثابتة، لكنّها في الواقع مجرّد سراب. فالمنطقة بكاملها تعيشُ منذ فترةٍ طويلةٍ حالةً من السيولة. تتجاذبُها القوى الصاعدة من هنا والمهيمنة من هناك، ساحة قتال تتواجه عليها أجهزة المخابرات العالمية بوضوحٍ وقح. ضائعة الانتماء بين الشمال والجنوب، بين الشرق والغرب كما لو أنّها تفتّش عن هُويّةً لنفسها على الرغم من تاريخها العريق وقيمة ما قدّمته للحضارةِ الإنسانية. تُشكّكُ في نفسها ويُشكّكُ أهلها بعضهم ببعض.
ها هي المنطقة بكاملها أصبحتْ رثّة، مهترئة كثوبٍ مهلهلٍ، منهكٍ، وعليك أن ترميه في الزبالةِ لإعادة التدوير
كنّا نظنّ أنّها حال عابرة ستستقيم بعد حرب أهليةٍ، اجتياح عدو، انهيار مؤقت، حال لن تدوم إلّا لفترةٍ قصيرة، لكن من الواضح أنّها لم ولن تستقرَ قريباً.
فلنعتد إذاً. أهذا الذي يجب أن يحدث؟ ما الذي جلبه اعتياد بعضنا إلّا المزيد من التدهور؟
أقولُ لنفسي، لا أنت مخطئة. أنت غير قادرة على تصوّر واقعٍ أفضل ببساطة لأنّك لم تشهدي يوم كانت البلاد مزدهرة ومستقرة، تماماً كما كانت العملة الوطنية الجميلة قبل انهيارها. مخيلتك فارغة من هذه الصور التي لم تشاهدي مثيلاً لها إلّا خارج هذه الخريطة المنكوبة، في بلادٍ بعيدة.
لكن هل هذا صحيح؟ بمرورِ الوقت، ها هي المنطقة بكاملها أصبحت رثّةً، مهترئةً كثوبٍ مهلهل، منهك، وعليك أن ترميه في الزبالةِ لإعادة التدوير.
كان الأمل أحياناً بالهروب إلى مكانٍ ما في العالم، للاستراحةِ قليلاً. لكنّي اليوم أرى العالم كلّه هكذا، الكراهية والتوّحش يجتاحان كلّ شيء. والعفن الذي ينتشر بحاجةٍ إلى مياهٍ كثيرةٍ لتجري فوقه كي يعودَ نظيفاً، كي يتغيّر. هل اقترب الخراب الأخير؟
لم يبق إلّا الأمل بمددٍ من السماء. لكن، لا تخطر بالبالِ إلا جملة محمود درويش في قصيدته الشهيرة: يا الله، جربناك جربناك.