بين شهيدين
بفارق يومين فقط، سقط للبنان، من بين شهداء كثر، شهيدان دفاعاً عن الوطن. واصطفاؤنا هذين الشهيدين من بين الجميع للحديث عنهما يعود إلى طريقة استشهادهما، وشكل تفاعل اللبنانيين مع الحادثتين، بما يلخّص في مكانٍ ما مشهد لبنان، لا في هذه الحرب الهمجية التي نعيشها فقط، بل في تناقضات الهوية الوطنية في أيامنا العادية. تناقضات زادتها الطائفية المُتفاقمة منذ الحرب الأهلية، إضافة إلى الإصرار على نظامٍ منتهي الصلاحية، هو النظام اللبناني العاجز والفاسد، تعقيداً، لدرجة تحويل يومياتنا إلى مصدر غني للمواقف العصيّة على الفهم للمراقب من الخارج.
فبعد يومين فقط من تعميم إعلام العدو الإسرائيلي فيديو اللحظات الأخيرة للقائد الفلسطيني يحيي السنوار، في مشهدٍ أثار لدى مشاهديه، عكس ما أراد ناشره، الاحترام والتقدير لرجل بقي، جريحاً، يقاتل حتى نفسه الأخير، نشر الإعلام العسكري نفسه فيديو آخر لاستهداف مقاتل لبناني في إحدى القرى الأمامية على الجبهة مع العدو بصاروخ من مُسيّرة، بعد أن عجزت القوات البرية التي تحاول التوغل في الأراضي اللبنانية عن التغلّب عليه في الاشتباك الدائر بينهما، على الرغم من أنّه هو الآخر كان مصاباً في قدمه.
كان الشاب يقاتل وحيداً محتمياً بأنقاض منزل مدمّر في بلدة العديسة الجنوبية على الأرجح، مشتبكاً من المسافة صفر، حسب التعبير العسكري، مع قوة راجلة للعدو تحاول اقتحام البلدة دون جدوى.
يصوّر الفيديو الشاب وهو يتنقل بين سلاحي "الآر بي جي" المضاد للدروع والدبابات، وبين الكلاشينكوف، مطلقاً النار بكلِّ هدوء وثبات على ما بدا أنّها أهدافه، إلى أن أطّرته المُسيّرة في عين الهدف، وأطلقت عليه صاروخاً، فتبدّد في الانفجار مع أنقاض البيت الذي كان يحتمي فيه غبارًا منثوراً.
وكما حصل مع فيديو السنوار، حصل للشهيد اللبناني مجهول الهوية بداية. فقد تفاعل الناس بعاطفةٍ منقطعة النظير مع مشهدِ استشهاده بعد تفانيه في القتال وثباته في مكانه، كما لو كان غير مكترث بما قد يصيبه، ومصرّاً على أن يكبّد العدو أكبر قدر ممكن من الأضرار قبل أن يستشهد.
هكذا انتشرت صوره عبر وسائل الإعلام، فعلمنا أنّه مقاوم في حزب الله واسمه إبراهيم حيدر. وعثر "الإنترنتيون" على فيديوهات قديمة له، فتداولوها محوّلين صورته إلى أيقونة هو الآخر. وقد ضجّت وسائل التواصل بالتعليق على فيديو استشهاده، وجرى الاحتفاء به، خصوصاً في الإعلام ومواقع السوشيال ميديا المؤيّدة للمقاومة، من دون أن يتخطّى إطار تلك المواقع.
بعد يومين آخرين، يتلقى اللبنانيون خبر استشهاد مواطن آخر، هو الرائد في الجيش اللبناني محمد فرحات واثنين من الجنود، هما محمد البزال وموسى مهنا، حين كانوا بصدد مهمة إنقاذ وإجلاء جرحى بالقصف الإسرائيلي في خراج بلدة ياطر- بنت جبيل.
حاول الضابط والجنديان دخول الموقع المقصوف، إلا أنّ العدو الذي يمنع عن أهل غزّة، إضافة لكلِّ شيء، إسعاف جرحاهم أو حتى دفن جثث الشهداء الملقاة في الشوارع، صوّب على العناصر الثلاثة وقصفهم، فاستشهدوا.
وقع خبر استشهاد الرائد فرحات من قلوب اللبنانيين، موقع الماء من المتعطش لرؤية جيشه يقوم، كأيّ جيش في العالم، بمهمته في الميدان
كان التصويب على الجيش اللبناني، على الرغم من حوادث "تحذيرية" سابقة، مفاجئاً. فمن المُتعارف عليه، ولو بشكلٍ غير رسمي بالطبع، أنّ إسرائيل لا تصوّب على الجيش اللبناني إلا فيما ندر، كونها لا تعتبره، لا هو ولا الحكومة اللبنانية، مسؤولين عن "أفعال" حزب الله في مقاومتها. هذا من تعقيدات المشهد اللبناني وشرحها يطول.
هذه المرّة، ضجّت وسائل الإعلام الرسمية والرئيسة على اختلاف أيديولوجياتها المتناقضة بالخبر، إن كانت قنوات تلفزيونية أو وكالات إعلام، وأبرزت نشراتها وعواجلها صور الضابط والجنديين الشهداء. خصوصًا أنّ الخبر وقع من قلوب اللبنانيين موقع الماء من المتعطش لرؤية جيشه يقوم، كأيّ جيش في العالم، بمهمته في الميدان. فيحميهم من عدو يشن عليهم عدواناً رهيباً، من دون أن تقوم السلطة السياسية بإصدار أيّة أوامر بالتحرّك لجيشها الممنوع من التصرّف، فضلًا عن التسلّح، دولياً، كما بات معلوماً.
لم يكن هناك فيديو للحادثة، لكن سرعان ما نُبشت للرائد فرحات حادثة من العام الماضي، كان قد أبدى فيها بسالة متوقّعة من جندي يدافع عن أرضه، حين منع جيش العدو من تثبيت وتد عند الخط الأزرق مقابل بلدة عيتا الشعب، أرادها لربح بضعة سنتيمترات إضافية داخل الأراضي اللبنانية.
هكذا، استعدّ الرائد للمواجهة من المسافة صفر، مهدّداً العدو وملقياً بأمر حازم لجنوده أن "لقّم يا عسكري"! أي لقم سلاحك استعدادًا للاشتباك، ما دفع العدو للتراجع.
في خضم هذا الاحتفاء، نسيت الشاشات الجنديين بالطبع، خصوصًا أنّ الأقدار شاءت أن تجتمع في ظروف وهوية الرائد الشهيد فرحات الكثير من مكوّنات احتفالات التعايش الطائفي المسمّاة، تجاوزاً، وطنية.
شاءت الأقدار أن تجتمع في ظروف وهوية الرائد الشهيد فرحات، الكثير من مكوّنات احتفالات التعايش الطائفي المسمّاة تجاوزاً، وطنية
فالشهيد رائد في الجيش اللبناني، شيعي، من بلدة دير قانون النهر الجنوبية، نزح بعائلته بعيداً عن مناطق الاشتباك إلى بلدة رشعين المسيحية في قضاء زغرتا، كونه يعرف أهلها ويعرفونه بسبب أنّه خدم في هذه البلدة لسنوات خلت.
وبما أنّ بلدته، حيث من المفترض أن يوارى في ثراها لا زالت في عين القصف الإسرائيلي، فقد قرّرت عائلته دفنه كما يقال "وديعة" في البلدة التي نزحوا إليها بانتظار انتهاء الحرب.
هكذا، وقع استشهاد الرائد فرحات، الذي رقي بعد الاستشهاد لرتبة عميد، في المنطقة المسموح الاحتفاء بها رسمياً، بمعنى موافقة كلّ الطوائف الأيديولوجية على مكانته الوطنية وقيمة شهادته، فجرت له مراسم تشييع رسمية حضرها قائد الجيش شخصياً، وأُكمِلت إجراءات الدفن والصلاة عليه في كنيسة مار مارون في البلدة، صلاة حضرها كلا من الخوري والشيخ، كما كُلّل تابوت الشهيد بالعلم اللبناني ورُشق موكبه بالرز والملبس وزغردت النساء تلك الزغاريد الحزينة التي تدّعي أنّها ليست كذلك.
للمصادفة، كلا الشهيدين حيدر وفرحات من الجنوب. وإن بدَوَا في مشهد الاحتفاء الذي ناله أو لم ينله كل منهما، وإن بدَوَا في المشهد اللبناني القاسي كما لو كانا خيارين متناقضين في كيف تكون وطنياً، إلا أنّهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة طُبِع عليها: الدفاع عن الوطن، كيفما استطعنا إلى ذلك سبيلا.