البناية القتيلة
مع أنّ ما حصل قد حصل قبل أسابيع، وعلى الرغم من أنّ ما تلاه كان أشدّ تدميراً ومبعثاً لوجع أكبر، كما في صور نسف القرى الجنوبية وتدمير الضاحية ومناطق أخرى كثيرة في لبنان أو قطاع غزّة، إلا أنّ مشهد البناية التي هبطت بطوابقها العشرة في ثوانٍ إثر قصف الطائرات الحربية المعادية لها بصاروخ بالقرب من بيتي في العاصمة اللبنانية بيروت، لم يبارح خيالي.
ومع كلِّ شروق شمس، وبالرغم من محاولاتي ككثيرٍ من اللبنانيين تبديد صور الأمس المؤلمة التي تتراكم كالأنقاض فوق ذاكرتنا دافنة تحتها صورنا الجميلة، بقصف إعلامي مركّز، مصدره شاشاتنا الإخبارية، إلا أني، مثلنا جميعاً، لا أنجح.
مشاهد تفجير قرى بكاملها يومياً. حرق غابات متنقّل بين المناطق بفعل فاعل، مُسيّرات تغير على الطرقات المسالمة فتقتل كيفما اتفق. طرقاتٌ مبقورة البطون يقطعها المضطرون مخاطرين بحياتهم التي لم يبقَ منها إلا ما يحملونه في حقائبهم المغادرة، حزن ثمار الزيتون الممنوع من الحصاد، الذي يموت على أمّه مختنقاً بغبار القنابل الفوسفورية وما تخلّف من رمل المباني المنسوفة، المواشي الشاردة في قرى فارغة وقد انتفخت أثداء أبقارها بحليب لا يجد من يخلصها منه قبل أن يقتلها. لا شيء من هذا يبارح خيالي على الرغم من محاولاتي للتعلّق ببصيص الأمل، والتركيز على أخبار المقاومة وما تنزله بالعدو من خسائر، إلا أنّ مشاهد خساراتنا التي لا تبخل علينا الشاشات المحلية بتكرارها كما لو كانت تشارك عن قصد أو غباء، العدوّ الهمجي في حربه النفسية علينا، تعيدني إلى المنطقة الصفر.
يتسلّل مشهد البناية وهي تهوي على ركبتيها كمقاتل أصيب إصابة قاتلة، إلى كلّ ما أراه
أقول لنفسي إنّ عليّ أن أخرج من المنزل، وأن ألتقي أصدقاء، وأن أتلهى بمسائل أخرى غير الأخبار، لمجرّد شحن جسدي وعقلي بالطاقة لاستطاعة الاستمرار، وحين أظن أنّي نجحت، يطفو مشهد البناية المغتالة، كما لو كان بقعة زيت تطفو بقوانين الفيزياء لكونها أخفّ من مياه الذاكرة.
ثم أقرّر أن لا أهرب. أتمعن في عقلي محاولة أن أفهم مدى الضرر الذي وقع وكيف أستطيع تجاوزه. أغضب من نفسي، أوبخها: لم لا تستطيعين محو هذا المشهد الذي لا يتجاوز الثواني الخمس من ذاكرتك؟ امحيه قلت لك! ألم تفعلي ذلك بكلِّ ذكريات الحرب الأهلية؟ لم لا تنجحين الآن؟ أكاد أصرخ في نفسي.
ثم أستسلم للمشهد الراسخ بالرغم مني، كما لو كان برنامجاً خبيثاً استطاع حشر نفسه في إعدادات عقلي. أستسلم وأنا آراه يعود إليّ حين أمشي الهوينى في الشوارع التي لا تزال قائمة من حولي. أتنبّه إلى أنّي قلت للتو "لا تزال"، منبئة بخوفي من محوها كما حصل للبناية القتيلة، للقرى القتيلة، للمناطق الشاسعة الواسعة التي أصبحت حفراً وركاماً ملوثاً بما خلفته القنابل المحرّمة دولياً.
أجول في شوارع اعتدت المرور بها في نزهاتي الصباحية أيام خلوّ البال، معجبة بطراز معماري هنا أو هناك ساد في الستينيات أو الخمسينيات، متفحّصة تفاصيلها. عمارات جميلة، غير مرتفعة كثيرًا، هندستها مرتاحة في الفضاء تشي بوقت كانت فيه المساحات متاحة، والعمران ملتزماً قوانين التصميم المدني. قوانين تفرض عرض الشوارع ومستوى الأرصفة وابتعاد المباني عن بعضها لكي تفسح المكان لباحات أو حدائق صغيرة أمامها. أرفع رأسي وأنا أمشي مستطلعة جمال شرفات تتدلى منها النباتات المعرّشة في الطوابق الأعلى وتكاد تعانق لغزارتها قمم أشجار الصنوبر التي تحفّ بالشارع من الجانبين، وتتعرّج جذوعها الباسقة في ارتفاعها نحو الغيمة الخضراء التي تعلوها. أشجار باسقة وعتيقة عتق حرش بيروت المجاور.
يكاد مشهد العالم في كوابيسي، يشبه مشهد الكوكب بعد دمار نووي
لكن، يتسلّل مشهد البناية وهي تهوي على ركبتيها كمقاتل أصيب إصابة قاتلة، إلى كلّ ما أراه. أتخيّل العمارة القديمة التي أحبّها كثيرًا وهي تفعل ذلك، بعد أن ينزل الصاروخ أسفلها وينفجر. من يموت أولًا؟ سكان الطوابق السفلى أم العليا؟ مفضلتي هي تلك البناية التي عليك أن تخطو فوق جسر يعلو بركة أسماك عند مدخلها. أقف فوق الجسر الصغير مدهوشة كطفلة وأنا أراقب السمكات الكبيرة الملونة تسبح فيها وقد سمنت فلم يعد يسعها أيّ اكواريوم. لكن، المشهد نفسه يعودني، فأشيح بوجهي عنه كما لو كان أمامي، وأسمع نفسي أقول بصوت عال: لا! فيلتفت بعض المارة إليّ!
في الليل، وبعد آخر جرعة من الأخبار، أنام، فلا أنام. يتداخل وعي اليقظة بلاوعي الذاكرة، ويتفنّن باختراع الكوابيس. مشاهد من أفلام الكوارث تختلط بصور واقع يكاد يكون أكثر كارثية، بمشاهد متخيّلة لما قد يكون عليه اليوم التالي للبشرية.
يكاد مشهد العالم في كوابيسي، يشبه مشهد الكوكب بعد دمار نووي. ليس بالشكل فقط بل بالروح أيضًا: روح مريضة تخيّم على المشهد كغيمةٍ قاتمة. روح مصابة بوباء فقدان المناعة الأخلاقية، تغطي جلدها المتقرّح دمامل متقيّحة. لا بشر هنا، بل مجرّد روبوتات نصف بشرية كنت قد رأيتها في فيلم ما عن نهاية العالم.
لا يهم من يربح ومن يخسر بعد إبادةٍ كهذه، فالبشرية والكوكب الذي تعيش فوقه، هما فقط الخاسران
الصورة بالأسود والأبيض مع أنّها ملونة بالأصل، خالية إلا من أكوام الأنقاض التي باتت جبالًا تحاذي وديانًا أحدثها القصف الثقيل والمتواصل، دخان يتصاعد من حرائق لم تخمد تمامًا بعد، وأرض تملأها حفر هائلة العمق جرّاء قصف مجنون بأطنان من المتفجرات التي حركت فالق الزلازل القديم، فاستيقظ مزمجرًا ليبتلع ما تبقى من عمارة إنسانية.
هذا مشهد نهاية العالم في كوابيسي. وهو ما أراه حين أنام، وأحياناً وأنا مستيقظة.
كم مرّة تكرّر هذا المشهد عبر التاريخ؟ لنقل مرات قليلة منذ بداية القرن الماضي. فالبشر لم يكونوا قد "تقدموا" بعد إلى هذه الدرجة في صناعة أدوات التدمير الشامل. أدوات قدّمها العلم إلى حكام أغبياء القلب وبلا أخلاق أو احترام لشيء غير القوّة، يتحكمون بالعالم كما لو كان مجرّد "غايم" أي لعبة ضحاياها افتراضيون.
حين يتحد الغباء الطبيعي بالذكاء الاصطناعي، أي الغباء مرتين، هذا ما يحدث. لا يهم من يربح ومن يخسر بعد إبادةٍ كهذه، فالبشرية والكوكب الذي تعيش فوقه، هما فقط الخاسران.