في بيتنا الدافئ
السيّدة التي عقدت مريلة المطبخ على خصرها، خفّت للترحيب بنا، لدى وصولي مع عائلة أختي إلى بيتنا في الجبل.
تجفّف السيدة كفيها من مياه غسيل الخضار المزدحم فوق رخام المجلى، ويُشرق وجهها بابتسامةِ من يرحب بضيفٍ عزيزٍ ينتظره منذ زمنٍ بعيد. فعلى غير عادة، تعذّر عليّ بسبب الحرب وخطورة التنقل هذه الأيام، زيارة قريتي حيث تمكث أمي وأختي الصغيرة منذ الربيع، وقد أطالتا إقامتهما هنا بسبب العدوان الإسرائيلي المستمر منذ نهاية سبتمر/ أيلول المنصرم، إضافة للطقس الذي لا يزال لطيفاً بـ"فضل" التغيّر المناخي، وأيضاً لاستضافتنا نازحين من أهل والدتي أجبروا على ترك مساكنهم التي دمّرها العدو في بعلبك وبلدات أخرى من البقاع ولجأوا إلينا.
تخفّ السيدة للترحاب بنا، لكنها، كما لو أنّها أدركت للحظة خاطفة، أنّها بدت بمظهرها ذاك مع مئزر المطبخ، كمن يرحب بأهل البيت في بيتهم، ارتبكت قليلاً. ومع ذلك، بقيت مندفعةً، كما لو كانت حركتها أسرع من ارتباكها، فعانقتني وقبلتني، ثم ابتعدت قليلاً وهي تمسح ما تبقى من رطوبة المياه عن كفيها دون أن تحيد بنظراتها المتفحّصة لوقع ترحيبها ذاك عني.
ارتبكتُ بدوري لنظرة السيدة. ارتبكت لأنّي لم أتذكر اسمها وهي تعانقني بلهفةٍ وترحّب بي باسمي، كما ارتبكت لأنّي أحسست بارتباكها. فهل فهمت أني لم أعرفها؟ أم أنّها ظنّت أنّ ارتباكي قد يكون استغراباً لمظهرها الذي تبدو فيه سيدة البيت؟
أردت ان أبدّد ارتباكها، ولو أنّي لم أتذكر اسمها. لكني لم أعرف كيف أفعل، فارتبكت أكثر. ولم أجد مفرًّا من الإشاحة ببصري عن عينيها المنتظرتين، هاربةً الى صدر والدتي الذي ارتميت عليه بشوق الابنة التي لم ترها منذ أكثر من شهر.
ثم برق في خاطري أنّ نظرتها تلك، ربما كانت انعكاساً لمعنى قد يكون لمع في عينيّ والتبس عليها تفسيره لحساسيّة الضيف، في حين أنّه تماماً عكس ما تخوّفت منه السيدة.
استعاد البيت ماضيه، روضةً مزدهرة تعجّ بالحياة، بعد أن أجبرتنا ظروفنا على هجرته إلا في العطل
فقد رأيت أنّ ضيوفنا يشعرون ويتصرّفون كما لو أنّهم كانوا في دارهم، رافعين عنا إحراج دعوتهم للتصرّف كذلك. والأهمّ، أنّ إدارة المنزل الكبير بساكنيه الكثر، باتت في عهدة هذه السيدة، منتزعةً العبء عن كتفي أمي الثمانينية، وهذا ما أشعرني بالامتنان.
لم تكن غريبة. فقد كانت تربطها بوالدتي صلة قرابة غابت عن خاطري لقلّة اختلاطنا بأقاربنا ولبعدنا الجغرافي عنهم. لم أتذكر اسمها مع أنّ وجهها بدا مألوفاً. ثم تجاهلت جهلي، واندفعت أسألها إن كان بإمكاني مساعدتها بشيء ما. فأمسكت بذراعي وقادتني بمرحٍ إلى الباحة لتجلسني في كرسيّ قائلة، على عادتنا بتكريم من لا نريد إتعابه، إنّ "كل شيء جاهز" وما عليّ إلا أن أشرب القهوة وأستمتع بقرب أمي، وهكذا فعلت. فعادت هي مطمئنة هذه المرّة لتنهي "تطبيق" الطبخة.
كانت طناجر المناسبات الكبرى على النار، وطاولة المطبخ تعجّ بكلِّ أصناف الخضار والفاكهة مختلطة بالقدور وما تبقى من مواسم بستاننا. ولأنّ عديد المنتظرين للغداء كان كبيراً، صُفّت الكراسي في الخارج وانبرى الرجال يسألوننا نحن القادمين من العاصمة عن الأحوال السياسية وما نتوقعه للحرب الناشبة، في حين سرح الأطفال يلاحقون النمل في البستان الذي نزع الخريف عنه كلّ أوراقه، ولم يتبق إلا بعض "عفارة" شجر التفاح، وبعض ثمار الخرما المضيئة بألوانها البرتقالية على أغصان أشجارها العارية.
كانت تلك الزحمة قد أعادت بثّ حيوية العائلات الكبيرة في بيتنا، فاستعاد ماضيه، روضةً مزدهرة تعجّ بالحياة، بعد أن أجبرتنا ظروفنا على هجرته إلا في العطل.
دبّت حياة جديدة، ليس في بيتنا وحده، بل في قريتنا التي بدت كما لو أنّها اتسعت وأصبحت بلدة حيّة
منزل كان قد خلا رويدًا رويداً من الأبناء أولًا، ثم من الأحفاد الصغار الذين توزّعوا أو توزّع أهلهم في المهاجر سعيًا لمستقبلٍ أفضل، فتناثروا بين القارات متساقطين كبتلاتِ وردة تفرقت أينما حملها النسيم، بين كندا ودبي والبرازيل وموسكو وباريس.
هكذا، جلسنا في باحة الدار التي تحوطها أحواض ورود أمي، وسرعان ما توافد أفراد عائلة السيدة للسلام، وكلّ يعرّف عن اسمه، فتنبهت الوالدة إلى جهلي بالأسماء وتدخلت لتذكرني بها وبصلة القربى. ثم توافد الضيوف الآخرون من الطابق الأرضي، وهم عائلة صديقة لأقاربنا. دعتهم والدتي للمكوث بيننا بدورهم.
أمي الحنون، الكريمة، ذات الضحكة الرنانة، التي لم تحتمل فكرة أنّ تلك العائلة، والتي كانت تسكن في منطقة خطرة لا يتوقف العدو الإسرائيلي عن قصفها، تضطر لإعطاء أطفالها، وأكبرهم بعمر السنوات الست، حبوباً منوّمة ليتوقفوا عن الصراخ والبكاء بسبب القصف فيناموا قليلًا.
هكذا، دبّت حياة جديدة، ليس في بيتنا وحده، بل في قريتنا التي بدت كما لو أنّها اتسعت وأصبحت بلدة حيّة. كلّ الطرقات التي كانت تبدو فارغة إلا من مارٍ من هنا أو هناك أصبحت "مأهولة". لا أقول إنّها تعج عجًّا بالناس، فذاك يصح على البيوت، لكن البشر كانوا كثرًا وظاهرين في الخارج يتمشون في الشمس الخريفية مستمتعين بالهواء النقي، ربّما لازدحام البيوت.
قريتنا التي كانت في طفولتي تحوي مدرسة وناديا رياضيا وأدبيا، ولا يلبي كلّ طلباتها ثلاثة جزارين، كانت قد فرغت بمرور السنين من الأجيال الجديدة. فتوقف النادي، وأصبحت المدرسة مقرًّا للبلدية، وغادرها أبناء الجزارين ليصبحوا أصحاب أشغال في بيروت والخليج وحتى أوروبا.
لذا شعرت بالسعادة عندما رأيت أنّ ابن الجزار القديم وقد أصبح كهلًا، عاد لمهنته وفتح دكانه الذي تجمع أمّامه السكان الجدد كما يفعل أهل القرى يوم سبت، وكلّ يريد نصيبه لمائدة اللحمة النيئة وإن لم يستطع فما يلزم لطبق الكبّة الوطني.
وللمرّة الأولى في حياتي ربّما، بدأت أفكر بتمضية الشتاء هنا، إلى جانب أمي وضيوفنا. لن يلزمنا إلا بعض الحطب والمازوت للتدفئة، وفسحة قليلة لي للنوم ومتابعة الكتابة، والأهم للاستمتاع مرّة أخرى، بدفء العائلة المزدحمة التي كانت في طفولتي، مقابل التخلّي قليلًا عن "استقلالية" استمتعت بها لا شك فيما مضى، لكنها تكاد اليوم تُحيلني كائناً برياً.