يدٌ تتدلى من سوس
بنبرة حزينة يرن جرس الهاتف النقال فترتمي ذراعي نصف النائمة لالتقاطه بعشوائية بغية خنقه، غير أن الحدس التكنولوجي الذي بتنا نمتلكه يدفعني: لا بد أن ترد، يعقب ذلك تردد محاولتين فاشلتين لفتح الخط بفعل اليد شبه المخدرة بأثر النعاس، ليكون أول ما سمعته بعامية بليغة: "مك، واش تلقاها ولا ما تلقهاش".
فتتلاشى كل أمارات النوم، يضيق نفسك وتضيع آخر دقة متوازنة للفؤاد. تعبر مسامعك عبارة كتلك؛ بشكلها المفزع عارية من أي تلطيف أو تقديم، محدثة تجويفا مخيفا في صدرك، فتبدو لك كصدى صفعة تلقيتها ولكن على مستوى القلب، تتداعى الكلمات تباعا في ذهنك متخيلا مشهدا يبعد عنك 400 كيلومترا، وهي مسافة يستحيل في نظرك على ملك الموت انتظارك كلها، يصارع سكرات أحدهم.
مرة أخرى تنبعث من رمال الصحراء قدم قادمة من كلمم، اسم صاحبها إبراهيم
عندها، تستوعب جيدا معنى تلك الكلمات المنطوقة: هي بمثابة تعزية قبل أوانها، تعزز اشتعال مشاعرك الظاهرة في حركات وانفعالات تقوم بها أنت نفسك وتجهل طبيعتها، إنك مُنتزَعٌ عن بعدي الزمان والمكان المحيطين بك، وتفصلك أيضا عن ريمونت التحكم في عضلاتك، لدرجة حتى ارتداؤك السروال يغدو تحديا بطوليا، لأن يديك المرتجفتين عاجزتين عن إدخال إبزيم حزامك في فتحته.
نفس تلك اليد المرتعشة تتجمد كتمثال إغريقي حين تفتح محفظة نقودك، فيفتضح فراغها العميق إلا من دريهمات قليلة؛ هي كل رأس مالك إلى جانب نوع جديد من الخوف، ليس من الموت طبعا وإنما من غياب أن تكون شاهدا عليه، شاهرا في وجهه دمع عيونك الباسلة. آنذاك فقط تتراجع هيبته وهيمنته السلطوية على الكائن الفاني. أمام ذلك الفراغ يضيع امتلاء الموت برمته مقابل خواء محفظتك التي ستوصلك إليه.
لحظتها بالضبط، تتراءى لأصدقائك القابعين في زاوية الغرفة وهم من اليمين إلى اليسار: الزواوي من ميسور، الهواري من أيت ملول، سجيد من كلميم، ويتراءى لهم ترنحك أمام خواء محفظتك وروحك على حد سواء.
من بينهم تنسل بغتة وتتدلى يد قادمة من سوس، جاءت بجودها وعلمها معا، فتهديك، تهبك أربع مائة درهم منتوفة من مخزونها الضئيل تحسبا لدوائر الزمن وتبعات الشهر الطلابية.
تتلقفها بيديك الإثنتين كجرعة ماء في جوف الصحراء، تقبلهَا بسرور وأنت تدسها في جيبك لتبدأ في ارتداء جواربك حتى ينكشف لك الفراغ للمرة الثانية: ذلك أن حذاءك الوحيد الصالح للسفر لا يزال بحوزة الإسكافي بهدف إصلاحه. مرة أخرى تنبعث من رمال الصحراء قدم قادمة من كلميم، اسم صاحبها إبراهيم. يتنازل لك بوجه ضاحك عن حذائه "الموكسان" الجديد والمخصص للأفراح واللقاءات الغرامية. لحظتها فقط تتحول جنازتك التي أُنْذرتَ بها إلى بشرى بحفل راقص يجمع عروسين في قفص الإنسانية المشع: بين يد سوسية وقدم من كلميم.