أنا دمعي فلسطيني
لأنّ المناسبة شرط؛ بل والمأساة ظرف، ولأنّهم لن يقولوا "لِمَ كان الزمن رديئاً وقْتَ قُتِلَ الفلسطينيون"، لكن سيقولون "لِمَ سكت الذين لم يُقتلوا؟"، أي نحن، كوننا نتشارك معهم الدم، فكيف لا نشاركهم سيلانه؟
الحكاية مشوّقة رغم شقائها، بدأتْ مع تصفحي كتاب "الهزيمة والإيديولوجية المهزومة" لياسين الحافظ الذي أبان لي آنذاك، بالإحصائيات والتحليل المعقول، أنّ أعداد العرب الكبيرة في حرب 1948 أو 1967، لم يكن بإمكانها عمل الفارق بمواجهة مسلّحي "الهاغانا" الصهاينة؛ لأنهم كانوا (العرب) آنذاك مهزومين فكرياً واجتماعياً، وهي نكبة شُوهدت في التيه التنظيمي وتشوّهات القرارات التي جرى التمسّك بها، من قبيل طرد القوات الأممية من قناة السويس من قبل الرئيس المصري الأسبق، جمال عبد الناصر، والذي انجرّ إلى حرب أدّت إلى هزيمة فادحة لم يكن مستعداً لها؛ فتفاجأ بذلك حتى العدو المنتصر نفسه.
هذا غيض من فيض قصة فلسطين وجرحها الذي ما زال يسبّب الغصّات والجروح التي لا تسقط بالتقادم، لأنّ الأمر يتعلّق بكرامة أُمّة تستوجب منّا أن نكون عرباً أقل، بمعنى عاطفيين أقل، حتى ندرك الوضع المعقد الذي آلت إليه القصة المشوّقة، لندرك أنّ اتفاقية أوسلو مع السلطة الفلسطينية، وقبلها كامب ديفيد مع المصريين، واتفاق وادي عربة مع الأردن، كلّها أبانت أنّ نهاية الحكاية مقدّر لها أن تُكتب بالدم أساساً، لأنها وُلِدت به وليس بغيره، أي إن واقع الاحتلال والاستيطان يفرض على مسار وطبيعة الصراع، أن يبقى في إطار معادلة أن يكون الفلسطينيون أو لا يكونوا، أو كما عبّر الشاعر الفلسطيني، محمود درويش: "هذه الأرض لا تتسع لهُويتين/ إما نحنُ أو نحنُ...".
واقع الاحتلال والاستيطان يفرض على مسار وطبيعة الصراع، أن يبقى في إطار معادلة أن يكون الفلسطينيون أو لا يكونوا
لقد قال درويش مقطعاً شعرياً يلخص ألف درس في الأنطولولوجيا والعلوم السياسية، وحتى العلاقات الدولية. الدليل على ذلك، أنه على الرغم من التنازلات التي أعطتها منظمة التحرير الفلسطينية لإسرائيل؛ فإنّ هذه الأخيرة ترفض بتاتاً حلّ الدولتين، وإقامة دولة فلسطين في حدود 1967، عاصمتها القدس الشرقية، لأنّها على يقين تام بأنّ بناء دولة بجوارها، لها مؤسسات وجيش وقوات أمن وشعب... ستعمل على محاربتها إلى الأبد، نظراً إلى الوجود غير الشرعي للدولة المحتلة. فما بالك إذا كانت متصهينة تستعمل أخطر أداة شعورية عند الإنسان، أي الدين؟!
ولعل إلقاء نظرة على الحروب في التاريخ، والتي غُلّفت بأسباب دينية، يعطينا فكرة عن ذلك، كما يوضّح لنا أحد أسباب الدعم المطلق، وغير المشروط الأميركي لإسرائيل، وهو ما دفع الرئيس الأميركي، جو بايدن، للقول فيما مضى "لو لم توجد إسرائيل في الشرق الأوسط لكان علينا إيجادها"، وهو الأمر الذي كرّره، مؤخراً ومجدّداً، بطريقة أخرى، وذلك في إشارة صريحة ومفضوحة إلى تحالف القوة الاستعمارية ضد قوة الحق في أرض الأجداد بزيتونها، هذا الزيتون الذي عادة ما يعصره المزارع الفلسطيني ليستخرج منه الزيت، في حين يسيل دمه اليوم في غزة وغيرها، ومعه تُعتصر قلوبنا دماً، وعيوننا دمعاً، مردّدين ترنيمة "أنا دمعي فلسطيني".