التعليم في المغرب... دولة برأسين
يبدو أنّ التدبير السياسي بالمغرب سائراً برأسين: دولة لها رئيسها الفعلي، وحكومة تدّعي امتلاك رئيس أيضاً، كان يسمّى في الدستور السابق الوزير الأول قبل 2011. هذه القطبية الثنائية المعقدة والمتداخلة تجعل كلّ محاولة لفهم السياسة التدبيرية للبلد ضرباً من التحدّي والضبابية التي لا تقدّم لك نفسها إلا في النزر اليسير. من هنا يمكن استيعاب المفارقة القائمة بين الانتصارات التي يحقّقها وزير الخارجية، ناصر بوريطة، في ملف الصحراء مثلاً، والعلاقات الخارجية عموماً، وبين الاندحارات الداخلية التي يعيشها المواطنون بفعل ارتفاع الأسعار في كلّ المواد الحيوية وغلاء المعيشة الذي يضرب في صميم الصراع من أجل البقاء الحافظ للكرامة.
يزداد موضوع هذه الثنائية غموضاً وتعقيداً (والتي تصل إلى حدّ الانفصام بلغة المحللين النفسيين)، حين يتعلّق الأمر بقطاع التعليم المعقد أصلاً، الذي يجمع بين حِفظ كرامة الناس واحتفاظهم بعقولهم جيدة ومصونة لأجيال. فلقد ازداد وضع التعليم تشوّشاً واختلالاً بقرار أرعن هو توظيف جهوي من اختصاص الأكاديميات الجهوية في تدبير حكوماتي لم يصل بعْدُ لإرساء جهوية بالمعنى الحقيقي، حتى يُكلف هذه الجهة بالإشراف على قطاع حساس هو التعليم.
فهل فعلاً كان قرار التعاقد عشوائياً أرعن كما يقدّم نفسه للساخطين عليه والشامتين فيهم على حدّ سواء؟ فلنشاهده من زاوية مُهندسيه والقائمين عليه أولاً، ليظهر أنه قرار سيادي واختيار استراتيجي للدولة، طُبِخ مع تعيين المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي 2014، وتمّ إخراجه في جلباب حكومة محدودة الصلاحية حتى يصبّ الغضب كلّه عليها بدل التوّجه إلى الجهة الحقيقية التي تبنتْهُ. غير أنّ هذه الأخيرة تتغافل أنها تُرسي لدولة عرجاء بتبنّي قطاع مثل الأمن في حضنها تُهدهد عليه، وقطاع لقيط كالتعليم تنفرُه وترمي به كجمرة حامية في حِجر الحكومة. وهي بذلك تضرب في واحد من أعمق التعريفات الجوهرية الحقيقية للدولة كمؤسسات سياسية عامة، تلك التي نظّر لها جهابذة الفكر السياسي الحديث والمعاصر من توماس هوبس إلى جان جاك روسو وصولاً إلى جون راولز.
تنتقل الدولة نظرياً وعملياً من مؤسسات عرجاء إلى مجرّد "سمسار" يتاجر بمستقبل الأجيال مع تربيتهم وتعليمهم
الآن؛ من نافذة الساخطين عليه، يبدو نظام التعاقد مع الأساتذة امتداداً طبيعياً لسياسة التقويم الهيكلي، وبالضبط الإصلاح المدرسي؛ التي تبنتها الدول في القرن السابق بناءً على إملاءات صندوق النقد الدولي الذي "ينصح" بالتقليل من كتلة الأجور ورفع يد الدولة عن قطاعات غير مُربحة كي تبقى في إطار التنافسية بين الخواص، وهذا ما ظهر في المادة 135 من الميثاق الوطني للتربية والتكوين كوثيقة مرجعية في سياسة الدول تجاه التعليم. تلك المادة التي تنصّ على أنّ الدولة ستصبح مجرّد مشرف ومنظّم للعلاقة بين الشِغيلة والمشغلين.
بهذا الشكل تنتقل الدولة نظرياً وعملياً من مؤسسات عرجاء إلى مجرّد "سمسار" يتاجر بمستقبل الأجيال مع تربيتهم وتعليمهم. وهي نقيصة إن تكاملت أركانها، تصبح ضربة قاضية لقيمة الدولة وحضورها في قلوب وحياة أفرادها.
أما الشامتون، فيرمون الجرح ببوابل من أطنان الملح، المادة الوحيدة التي لم يرتفع ثمنها؛ ليقولوا بأنّ التعليم قطاع غير منتج ومستهلك لنسبة كبيرة من ميزانية الدولة، التي ينبغي توجيهها لشراء الدقيق. وهل بالخبز وحده يحيا الإنسان؟ أما إذا ما زلتم متشكّكين فاسألوا الرئيس الماليزي، مهاتير محمد، عن حكمته الخالدة: "إذا كُنت ترى بأن التعليم مكلف؛ فَجرِب الجهل".