من حكايات حارتنا.. حكاية رجل مستقيم
عبد الحفيظ العمري
حارتنا واحدة من حارات الدنيا الضيّقة، التي لا تنتهي حكاياتها، ولن تنتهي. وهنا أدوّن بعضاً من تلكمُ الحكايات.
جُنّ جنون الحاج قاسم، فهذه الأرضية هي ما ورثها من والده قبل ثلاثين سنة وبنى عليها بيته، فكيف يدّعي الحاج صالح ملكيتها؟
راح للمحكمة وهناك وجد العجب العجاب؛ فقد أخرج الحاح صالح "بصيرة" (البصيرة: هي حُجَّة ملكية البيت، بالعامية اليمنية) مشابهة لبصيرته في ملكية الأرضية وبتاريخ أقدم!
وهكذا، راح إلى المحكمة وجاء، ودارت الأيام ودار الحاج قاسم في هذه الدوامة التي لا تنتهي. وخلال ذلك، تسرّب إلى أذنيه قول الحكيم اليمني الأسطوري علي بن زايد:
باب "الشريعة" مُغلّقْ
إنْ كان لا شِيْ دراهم
فالباطل أمضى من الحقْ!
***
في كلّ محفل كان متحدّثاً عمّا يعانيه الناس، بلسان فصيح وحجّة دامغة، لا مواربة لديه في الحق، يقوله في وجه أكبر الرؤوس، لا انتصاراً لشخصه، بل انتصاراً لأهل حارته ولغيرهم من المظلومين والمسحوقين في هذا الزمان، وما أكثرهم.
لقد قضى حياته في مقارعةِ كلّ فسادٍ أطلّ برأسه واستشرى، فكانت خطبُه المنبرية، في يوم الجمعة وغير يوم الجمعة، قذائفَ حقٍ تصلي كلّ فاسدٍ بنيرانها، إذ تخرج من فم صاحبها مشحونةً بصدقه ونيته في الإصلاح لكلّ معوج، كل ذاك اجتمع مع نظافة اليد، وحسن السيرة، الأمر الذي جعل الناس تلتف حوله، إذ وجدوا فيه قدوتهم وصوتهم المعبّر عنهم.
لذا لا تستغرب من حزنهم حينما جاءهم نبأ نعيه، وكيف سارت تلك الجموع حشوداً في جنازته ذات يوم مشهود في تاريخ حارتنا المنسية.
***
(3): سامِحُهْ يا رب!
عسكريٌ من أهل حارتنا، تراه كلّ صباح يذهب إلى عمله بهندامه العسكري، الذي لا يُضفي عليه هيبة العسكر، كما تعوّدنا على تلك الهيبة، وذلك لأنّ الرجل في غاية البساطة، ودماثة الخلق مع أهل الحارة. وأظنه لا ينطبق عليه بيت الشاعر الزبيري المشهور:
وعسكريٌ بليدٌ للأذى فطنٌ ... كأنَّ إبليسَ للطغيانِ ربّاهُ
وبالمناسبة، فهذا البيت الشعري كتبه الشاعر محمد محمود الزبيري، في أربعينيات القرن الماضي، ناقداً العسكر الملتحقين بنظام الأئمة من آل حميد الدين، الذين حكموا اليمن منذ بداية القرن المنصرم، حتى أنهت حكمهم ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في بداية ستينياته، وأقامت النظام الجمهوري الحالي.
أولئك العسكر كان اسمهم العُكْفَة، والمفرد منها عُكْفِيْ، وتُطلق على الحرس الملازمين بيت الحاكم، كما يقول الأستاذ مطهر الإرياني، واشتهروا بالصرامة في تطبيق الأحكام، مع قلّة الصواب، لذا فلا ينطبق البيت الشعري على أيّ عسكري.
عودة لصاحبنا الطيّب، له جملة مشهورة يقولها مازحاً في وجه كل مَنْ يقابله من أهل الحارة، وهي: سامِحُهْ يا رب، ما يقصدش! وما أن يقولها حتى تنفجر ضحكات المحيطين به، متسائلين: عن ماذا يسامحه ربنا؟ وما هو العمل الذي لا يقصده؟ وهكذا انطبعت وارتبطت هذه الجملة به.
ومرّت الأيام، وتقلّبت الأحوال بالحارة وأهلها، وإذ بنعي الرجل يملأ جوانب الحارة، فذهبنا إلى مسجدها الكبير للصلاة عليه، ونحن نحوقل ونسترجع مذهولين، كما هي عادتنا مع كلّ فاجعة تداهمنا، كأنَّ الموتَ لم يخْطُرْ لمخلوقٍ ببالِ، كما يقول المتنبي.
وسرنا خلف الجنازة، والناس ترفع أصواتها بالتهليل، كما هي عادتها في الجنائز، وأنا وسْطَهم أتمتم بيني وبين نفسي بجملته المعهودة عنه: سامِحُهْ يا رب!
***
وتستمر الحكايات...