المعضلة العربية المعاصرة

03 أكتوبر 2024
+ الخط -

كشفت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، والتي تطورت إلى حرب شاملة على لبنان لا يزال أوراها مشتعلاً حتى اليوم، عن مدى هشاشة الحياة العربية المعاصرة!

ويظهر ذلك جلياً في ما جرى لحزب الله في لبنان من اختراق في صفوفه وتهاوي قيادته اغتيالاً خلال عشرة أيام فقط (17 - 27 سبتمبر/ أيلول المنصرم).

طبعاً ليس هذا هو الانكسار العسكري الأول، فهناك انكسارات كثيرة مرت بنا منذ 1948م وحتى اليوم، منها: نكسة 1967م، واجتياح 1982م، وسقوط بغداد 2003م، وغيرها من الحروب المحدودة.

أين المشكلة؟ ما الخلل؟

مشاكلنا كثيرة، حتى إن الواحد لا يدري من أين يبدأ في عرضها؛ فيصدق عليه قول الشاعر العربي القديم:

تَكَاثَرَتِ الظِّبَاءُ عَلَى خِرَاشٍ      فَمَا يَدرِي خِرَاشٌ مَا يَصِيدُ

غير أنّ المتفكر في حال أمتنا العربية المعاصر يرى بوضوح معالم الضعف والترهل البادي على جسد الأمة؛ فهي في ذيل الأمم الأخرى في أغلب مجالات الحياة الحيوية كالتعليم والصناعة وخلافه..

إن كل هذا له أسبابه التي أسهب مفكرو الأمة في اقتفائها وعرضها في مؤلفاتهم، كلٌ بحسب توجهه الفكري، كما أنّ له نتائجه التي تلوح أمام أعيننا بلا مواربة..

وكثيراً ما سألتُ نفسي: لِمَ نحن هكذا، على الرغم مما سرده التاريخُ لنا عن أمجاد قديمة؟

إنّ (نحن) في حد ذاتها مشكلة!

فمَنْ نقصد بنحن؟ هل العرب أم المسلمين؟

أظن أنّ عدم تحديد هويتنا اليوم هو واحدة من مشاكلنا..

لكنني أجزم وأقول: أنا أقصد به العرب وأمة العرب من المحيط إلى الخليج؛ فهذه هويتنا اليوم التي تتداخل معها هويات أخرى، لكن العنصر العربي هو المقصود، وإن وسم بالإسلام ديناً مهيمناً على هذه المنطقة، لكنني عنيتُ العرب كي أحصر الحديث عنهم وأستثني المسلمين من غيرهم خارج هذه الجغرافية المحددة..

لأننا بصفتنا عرباً لنا وشائجنا الخاصة التي تربطنا بعضنا ببعض، وسماتٌ تميزنا عن غيرنا من المسلمين الآخرين، ما يجعل مشكلتنا هي المقصودة بالحديث..

ونعود لنسأل: أين تكمن معضلتنا اليوم؟

إن الأسباب التي عرضها مفكرونا الأفاضل عن تردي حال أمتنا العربية المعاصر قد تنوّعت بحسب مشاربهم الفكرية، فمنها: الابتعاد عن الدين وعدم تطبيقه، وعدم الأخذ بالمفاهيم العصرية كالعلمانية، والتمسك بالموروث القديم وتقديسه، والاستعمار الخارجي الذي جثم على أغلب جغرافية هذه المنطقة لمدة زمنية تفاوتت من قُطر إلى آخر، والنظم السياسية الحاكمة المستبدة التي جاءت بعد رحيل الاستعمار... إلخ، إلى غيرها من الأسباب..

كثرة تلك المؤلفات التي صدرت عن تردي حال الأمة المعاصر تبين بوضوح تنوع زوايا النظر إلى معضلتنا المعاصرة، وكأنَّ كل مفكر من هؤلاء أمسك بجزئية معينة وقال هنا يكمن موضع الضعف، والحقيقة أن كل تلك الجزئيات تمثل في جملتها تكاملاً للمعضلة الرئيسية التي نعيش مظاهرها اليوم..

نحن العرب لم نبلور فكراً محدداً وفلسفة معينة في الحياة، فلسفة تنبعث من موروثنا العربي/ الإسلامي باعتباره أكبر رافد للحياة العربية..

فدعوني أسأل: ما هي فلسفة العرب اليوم في الحُكْم؟ وهل لديهم نظرية خاصة بهم في الحُكْم؟

الإجابة واضحة: لا!

فالذين ينادون بالحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة تنوّعوا في عرض نمطهم الذي استنبطوه، بحكم فهمهم للدين، وأغلبه منقول من موروث قديم، كحاكمية الخوارج، أو الحق الإلهي لدى الشيعة وطوائفهم المتعددة، وهذه نماذج لم تراعِ ما أحدثته القرون التي مرت بنا بصفتنا عرباً، إلى جانب أن العرب ليسوا متفقين جميعهم على هذه النماذج..

ولو دققنا النظر في بقية أفكارنا المعاصرة في الحُكْم، فسنجدها مجلوبة من خارج المنظومة العربية في التفكير، وأريد تطبيقها على بيئتنا العربية، من دون اعتبار لقاعدة أنّ كل فكر إنما هو نبت بيئته!

أنا عرضتُ موضوع نظرية الحُكْم نموذجاً لمدى تشتت الذهنية العربية في صياغة مشروعها الحضاري، لأن الاستقرار السياسي هو حجر الأساس لأية نهضة تريدها أمة من الأمم..

ونحن – والحمد لله – بلا مشروع حضاري واضح، لذا تصدق علينا مقولة د. عبد الوهاب المسيري: "إنّ مَنْ لا يملك مشروعاً حضارياً يتقدم بخطىً حثيثة إلى مزبلة التاريخ" (رحلتي الفكرية، ص: 467).

فكانت النتيجة لكل ما سبق، أننا بوصفنا عرباً لم نصنع دولاً حقيقية، وكل ما لدينا هو مجرد مقاطعات أو ملوك طوائف تحدّرت من أندلسٍ مغلوبة على أمرها!

فهذه الكانتونات الجغرافية المتناثرة على الخريطة قائمة على المحددات الثلاثة التي حكمت العقل السياسي العربي في الماضي، بحسب د. محمد عابد الجابري، وهي القبيلة والغنيمة والعقيدة، فأصبحت القبيلة محركاً للسياسة، والريع جوهر الاقتصاد، والعقيدة دافعاً للفعل وتبريراً للقمع.

في حين لو التفتنا إلى خصمنا التاريخي، فسنجد أنّ إسرائيل بالرغم من كونها احتلالاً استيطانياً أو بتعبيري (حاملة طائرات أميركية موضوعة على البر الفلسطيني)، إلا أنها استطاعت صناعة دولة!

دعوا العاطفة جانباً، فأنا أعرف أنها دولة معادية للعرب، لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بكونها استطاعت خلال 75 عاماً من صناعة دولة، أفضل من دولنا العربية مجتمعة!

ستقولون: لقد حدث ذلك بمساعدة دول الغرب لها، تتصدرهم الولايات المتحدة الأميركية..

أقول: صحيح.. لكن ألا نتساءل: كيف استطاع الصهاينة المشرذمون في كل قارة من صناعة دولة؟ (أتحدث هنا عن الدولة لا الاحتلال)..

كيف جعلوا الغرب يؤمن بهم ويساعدهم، حسب قولكم، في صناعة دولة؟

ربما التقت ميول الدول الكبرى الاستعمارية مع حلم الصهاينة، لكن في النهاية، لقد صارت إسرائيل دولة، شئنا أم أبينا..

دولة بمقاييس الدول الحديثة، في حين أن الكانتونات التي حولها من العرب لم تصنع دولة حقيقية بالرغم من كل الثروات التي تملكها..

هذه هي معضلتنا الكبرى في هذا الزمان، فنحن بلا كيان حقيقي يستطيع المواجهة، سواء في الحرب أو السلم..

وكل مظاهر الترهل والتردي التي تعترينا بصفتنا أمة عربية هي نتاج (طبيعي) لعدم كوننا دولاً حقيقية، بل لا غرابة أن تشمل هذه المظاهر كل نواحي حياتنا المعاصرة..

وليت أنّا نعترف بذلك، فالإحساس بالمشكلة يدفعك إلى حلها، لكنّا ذهبنا إلى المزايدة متشدقين بالتاريخ العريق لهذه الأمة تارةً، أو بالخُطب النارية تارةً أخرى، وثالثة الأثافي: الاختباء خلف النصوص الدينية التي نقرأها أنّ الله معنا، وسينصرنا لأننا أصحاب قضية عادلة!

أقول: التاريخ العريق مكانه المتحف، وقاعات المحاضرات، لا الواقع..

أما الخُطب النارية، فنحن العرب ظاهرة صوتية وضوضاء لا يلتفت أحد لها..

أما حكاية النصوص الدينية، فلا ننسى أنّ حكّام إسرائيل يؤمنون بنصوص دينية من التوراة، تفيد بأنهم أصحاب الحق، لكنهم لم يكتفوا بقراءتها فقط، بل جهزوا العدة والعتاد لتطبيقها، فماذا جهزنا؟

في عصرنا الحالي، لا يكفي أن تكون صاحب قضية عادلة بلا وسيلة للدفاع عنها، لأنك حينها ستصبح مجرد محامٍ فاشل!

يا صديقي، نحن في غابة أرضية، حيث البقاء فيها للأكثر تطوراً.. والأحسن تعليماً..

لمالك التكنولوجيا وصانعها، وليس مستوردها..

لباني دولة عصرية تحترم مواطنيها.. لا ترهبهم..

هذا زمانٌ البقاء فيه للأذكى..

ونحن أمام خيارين: إمّا الارتقاء وإمّا الانقراض.. وفي التاريخ عِبَرٌ لمَنْ كان له قلبٌ أو ألقى السَمَعَ وهو شهيد.

***

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري