عن نبينا الذي لا نعرفه
عبد الحفيظ العمري
كثيراً ما نتشدّقُ، نحن مسلمي هذا الزمان الأخير، بحبّنا للنبي محمّدٍ، عليه الصلاة والسلام؛ فنقولُ في ذلك خُطباً بلا حدٍّ، وننظمُ القصائدَ العصماءَ في تعظيم مكانة النبي، وكأنّه محتاجٌ لشهادتنا (المجروحة) عنه!
أعرف أنّ إظهار الحبِّ أمرٌ لا غُبار عليه، ونحن كلّنا نحبُّ نبيّنا الكريم، لكن هل ترجمنا هذا الحبَّ بشكلٍ صحيحٍ وصادق؟
دعونا نتجاوز قضيّة (الله أعلم بالنيات)؛ إذ ليس في مقدورنا قياسها لأنّها أمورٌ قلبيّة، ولا وصاية لأحدٍ على ضمائر الناس.
حسناً، أنت أيّها المسلمُ تحبُّ نبيّك، لن أسالك عن مظاهرِ هذا الحبّ، لأنّنا فالحون في المظاهر والشعارات، لكنّي أسألك: ماذا يترتبُ على هذا الحبِّ؟
البديهي أولاً أن تعرفَ نبيّك جيّداً حتى تحبَّهُ حقيقةً، لا خيالاً كما سمعتَ عنه، خصوصاً أنّ مناهجنا المدرسيّة تقصّر في عرض السيرة النبويّة؛ إذ تعرضها بأسلوبٍ ورثناه عمَنْ سبقونا، وهو تصنيف السيرة النبوية بين الشمائل والمغازي؛ حيث الشمائل تكونُ لمحاتٍ مُختصرة تعرضُ أخلاقَ النبي الكريم عرضاً مُجتزأً لا يليقُ بشخصه الكريم، في حين تكون المغازي مجرّد سرد "تاريخي" لأهم أحداث السيرة النبوية، ابتداءً من الهجرة وحتى حجة الوداع والوفاة، في تركيزٍ على الأحداث العسكريّة، الغزوات، من بدر إلى حُنين، وكأنّ النبي كان قائداً عسكرياً لا غير!
إضافة لذلك، تدمغ تياراتنا الدينيّة المعاصرة السيرة بإيديولوجيتها؛ فتصنعَ سيرةً بحسب مقاساتها التي تراها، وكأنّ النبي ماركة مسجلة لهذا التيار أو ذاك. فأين النبيُّ محمد، عليه الصلاة والسلام، في كلّ هذه السِيَر المكتوبة؟
تدمغ تياراتنا الدينيّة المعاصرة السيرة النبوية بإيديولوجيتها؛ فتصنعَ سيرةً بحسب مقاساتها التي تراها، وكأنّ النبي الكريم ماركة مسجلة لهذا التيار أو ذاك!
لو نحينا كلّ ما سبق وذهبنا إلى القرآن الكريم، لوجدناه يُلخّصُ شمائلَ النبي في قوله تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم: 4).
بل إنّ النبي الكريم نفسه لخّص رسالته، قائلاً: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأِتَمِّمَ مَكَارِمَ الأْخْلاَقِ"، وهناك أحاديثُ كثيرة في الحضِّ على الأخلاق. وعندما سُئلت السيدة عائشة، رضي الله عنها، عن خُلق النبي، أجابت: "كان خلقُهُ القرآن". وحتى خصومه من كفّار قريش كانوا يلقبونه في الجاهلية بالصادق الأمين.
كلُّ هذا يعرّفنا على ملامح نبيّنا بسهولة، بأنّها الأخلاق الرفيعة، مجسّدةً في شخصٍ عاش حيناً من الدهر، باعثاً أمّته التي أُرسل إليها من الظلماتِ إلى النور. وهنا، لا تقل لي: لكن الأمّة بعده عادت يقاتل بعضها البعض، ولا تزال تفعل ذلك حتى زماننا.
لأنّني سأجيبك: تلك أهواءُهم التي حكّموها في فهمهم لرسالة النبي، إذ كلُّ فريق يرى أنّه الوارث للرسالة، ولو دقّقت في كلّ صراعاتِ الأمّة الإسلاميّة لوجدتها تدورُ حول كرسي الحكم، بعد أن اتخذ المتصارعون من الدين مطيّة لهم، بل ومسخوه في سبيل ذلك، وستجد آثارَ هذا المسخ في شعاراتنا الباهتة التي نتشدّقُ بها باسم الإسلام.
حيثما كانت الأخلاقُ كان النبي محمّد عليه الصلاة والسلام
لذا، فأنت أيّها المسلمُ المحبُّ لنبيّك الكريم، لا تَشغلْ بالَك بصراعاتِ قبائل العرب التي حنّت إلى جاهليّتها الأولى، وصنعت من تلك الصراعات تاريخاً سمّته "التاريخ الإسلامي"، ولا بصورةِ النبي الذي تفصلّه كلُّ جماعة على مزاجها. أنت تقتدي بنبيّك الكريم الجامع لمكارمِ الأخلاق، لذا فحيثما كانت الأخلاقُ كان محمّد.
ودعني أتساءل: إنّ نبينا محمّد قبل بعثته كان يُلقب في الجاهليّة بالصادق الأمين، فبالله عليك، أين منّا هاتان الخصلتان الكريمتان اليوم، ونحن في زمانٍ ساد فيه الكذب والمَلَق، وصارتْ الأمانة عملة نادرة؟ فما بالك بمحمّد الذي صار بعد ذلك نبيّاً وقدوة لأتباعه؟
يا صديقي، لو راجعت كلّ السِيَر لوجدت خصالَ نبيّك محمّد، عليه الصلاة والسلام، في أعلى عليين الأخلاق، ورحم اللهُ أميرَ شعرائنا أحمد شوقي عندما وصف النبي بقوله:
يا مَنْ له الأخلاقُ ما تهوى العُلا ... منها وما يتعشَّقُ الكُبراءُ
لو لم تُقم ديناً لقامت وحدَها ... ديناً تُضيءُ بنورهِ الآناءُ.