شيخي الحكيم وشعوبنا وقضية فلسطين
عبد الحفيظ العمري
شيخي رجلٌ طاعنٌ في السن، لكنه خَبَرَ الناس، وعَلِمَ تقلبات الزمان، وله في الحكمةِ باعٌ طويل، وأنا أزورهُ بين الفينةِ والأخرى لأتزوّدَ من حكمته.
هو اليوم معتكفٌ في خلوته يتعبّد بالتفكّر، ويرى أنّ تلك العبادة أهملها كثيرٌ من الخلق. وهنا أوردُ بعضاً ممّا دار في مجالسه.
(1)
سألتُ شيخي: جئتكَ اليوم يا شيخ في أمرٍ احترت فيه كثيراً.
- ما هو؟
- أحوالنا حيال ما يجري على أرض الرباط اليوم.
- ما لها أحوالنا؟
- لقد مرّ على اندلاع المعركة أكثر من سنة، ولا يزال أهلنا في فلسطين عامة وقطاع غزّة خاصة يُبادون ويُقتلون أمام شاشات العالم، ونحن، عرباً ومسلمين، لم نحرّك ساكناً، وها هو لبنان دخل على خطِّ المواجهة، فلم تبلّدنا هكذا؟
تنهّد الشيخ وقال: وأيّ تبلّد! نحن شعوب ضُربتْ عليها الذلة والمسكنة، فصرنا في ذيل الأمم، ونحن اليوم نجني ما غرسناه منذ أمدٍ طويل.
قاطعته سائلاً: لكن ليس ذنب الشعوب، بل الحكّام.
قال: تقول هذا، وكأنّ هؤلاء الحكّام جاؤوا من كوكبٍ آخر، أو أنّهم ليسوا من طينة تلك الشعوب؟ إنّ تطبيل شعوبنا وتصفيقها ومحاباتها لحكّامٍ لم يبنوا دولاً حقيقية، ولا اهتموا بأمر شعوبهم، هو ما جعل هؤلاء الحكّام فراعين علينا.
قلتُ: ولكنهم يا شيخ مفروضون على شعوبهم بفعل قوى خارجية.
قال: ما كانوا ليفُرَضوا لو كانت الشعوب صاحية وواعية لمَا يُحاك لها. ثمّ أردف قائلاً: تذكّر، يا بُني، أنّ الله تعالى قد أخبرنا عن فرعون وقومه بقوله: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ" (الزخرف: 54)، فبيّن بجلاء أنّ فرعون ما كان له أن يستخفَّ قومَه ويطيعوه لو لم يكونوا قوماً فاسقين. الشعوب صانعة القادة، ودعني أسألك: هل شعوبنا على قلب رجلٍ واحد في موضوع قضية فلسطين اليوم؟
نحن شعوب ضُربتْ عليها الذلة والمسكنة، فصرنا في ذيل الأمم، ونحن اليوم نجني ما غرسناه منذ أمدٍ طويل
قلتُ: الأغلب هكذا، غير أنّ هناك أصواتاً نشازاً تشكّك في جدوى المقاومة.
قال: وهناك المتفرجون السلبيون، الذين لا يعيرون أيّ اهتمام للأمر، وكأنّه لا يعنيهم من قريب ولا بعيد، بل يريدون أن يستأنفوا عيشتهم كما تعوّدوا، وكأنْ لا شيءَ يجري على أرض الرباط، فتراهم في مهرجاناتهم الغنائية لاهين، وبضروب الحياة الأخرى مهتمين. أليس كذلك؟
قلتُ في خفوت: بلى.
قال: وماذا عن دولة الاحتلال ومَنْ يناصرها من ساسة الغرب، هل تراهم تخلّوا عن الأمر؟
قلتُ: لا، بل هم مجدّون وساعون في كلِّ دربٍ ومسلك.
قال: أرأيت الفرق بين هممنا وهممهم؟!
مع أنّ هنالك من شعوب الغرب الجمَّ الغفير الذي يناصر القضية، وتلوح هذه النصرة في مظاهراتهم الماراثونية التي لم تنقطع طوال العام المنصرم.
أتدري كم عدد المظاهرات التي خرجت في أوروبا وحدها خلال العالم المنصرم؟
قلتُ: لا..
قال: أكثر من 260 ألف مظاهرة، في أكثر من 20 دولة أوروبية، وهذه الأرقام لا مجال لمقارنتها بمظاهراتنا المسموح بها في دولنا العربية أو المسلمة.
وإن كنت في بداية حديثك سألتني عن تبلّدنا حيال ما يجري، فأقول لك: إنّ القضية العادلة ستأتيها النصرة ولو من غير أهلها (المفترضين)؛ المهم أن يثبت الصادقون على إخلاصهم، فالأمر في نهايته بيد الله سبحانه وتعالى.
(2)
ممّا أدركتُ من أقوال شيخي الحكيم: "السياسيون كانوا في السابق يكتبون متون التاريخ وأبطال المعركة لا يذكرهم أحد، اليوم أبطال المعركة يكتبون متون التاريخ والسياسيون (إن صدقوا) يكتبون هوامشه".