من حكايات حارتنا.. القابض على الحقيقة

15 اغسطس 2024
+ الخط -

حارتُنا واحدةٌ من حاراتِ الدنيا الضيّقة، التي لا تنتهي حكاياتها ولن تنتهي. وهنا أدوّن بعضاً من تلكمُ الحكايات.

(1): حكاية المغترب ذي الكرش

أن تغتربَ عن وطنك، فلك أسبابك؛ لعلّ أهمها لقمة العيش، إذ يضع المغتربون نصب أعينهم تحسين أحوالهم المعيشية التي كانوا يعانون من شظفها في أوطانهم التي غادروها.

هذا هو المفترض، لكن صاحبنا الذي أحدّثكم عنه هنا، خلاف كلّ هذا، فهو مغترب من أجل أن يسمّن كرشه، دون أن تعود عليه غربته، ولا على مَنْ يعيلهم، بشيءٍ سوى الأكل والشرب وشيءٍ من المصروف.

فصاحبنا الهمّام يظلّ في بلد الغربة طوال العام، مرسلاً لأسرته ما يقوتهم ويُقيم أودهم (دون ترف)، حتى إذا جاءت العطلة الصيفية، استأذن من ربِّ العمل ورجع إلى بلده، ليعيشَ بين أولاده وزوجته تلكم العطلة في بحبوحةٍ من العيش، مرفهاً عنهم ببذخٍ يليق بمغترب، ويكون بذلك قد صرف كلّ ما جمعه طوال عام غربته، ليعودَ إلى بلد الغربة خالي الوفاض، وهكذا دواليك خلال سني غربته.

فماذا أنجزت من غربتك يا صاحبي؟ إذا كان الموضوع مجرّد أكل وشرب، فهو موجود في بلدك، مهما كانت الظروف.

(2) حكاية القابض على الحقيقة

لا. ليس العنوان أعلاه هو عن رواية العم، نجيب محفوظ، المشهورة، لكنها حكاية/ رواية أخرى.

إنّها حكاية أحد أفراد حارتنا المقتنِع بفكرٍ معيّن، وهو يعيش الدور تمامًا، بل يرى أنّه يعيش في الحقيقة، وأيّة حقيقة؟ إنّها الحقيقة التي وصلت إليه مع سطوعِ فكرٍ جديد اكتسح الحارة.

وصاحبنا هذا، يرى أنّ هذا الفكر هو الحقيقة المطلقة، وأنّه كان يعيش قبل اعتناقه في ضلالة. وليت الأمر وصل إلى هذا الحدِّ فقط، بل إنّ صاحبنا يرى أنّ أهل الحارة جميعهم كانوا على ضلالة، وأنّ هذا الفكر هو الهداية لهم، وأنا أعذره في هذا التفكير المتطرّف.

 كلّنا نرى أنّ الفكر الذي نعتنقه هو الحقيقة المطلقة، فما بالنا نستنكر أن يرى الآخرون أفكارهم هكذا؟

وقبل أنْ تلوّحوا مستغربين، أضيف: إنّنا كلّنا نرى الفكر الذي نعتنقه هو الحقيقة المطلقة، فما بالنا نستنكر أن يرى الآخرون أفكارهم هكذا؟

ولا ننسى أنّ أيَّ فكرٍ يظهر على الساحة، يلوح في بادئ الأمر جذّاباً وبرّاقاً ومليئاً بوعودِ صنعِ حياةٍ راقيةٍ، بل وإيجاد المدينة الفاضلة على الأرض؛ فلا غرابة أن ينجذبَ الناس له، كما هي عادتهم في تجريبِ كلِّ جديد، وإذا ما خاضَ هذا الفكر ومعتنقوه غمار التجربة، وصاروا على محكِّ التطبيق، ظهرت مناقب فكرهم ومثالبه.

المهم، صاحبنا ظلّ يعيش في نعيم حقيقته حيناً من الدهر، حتى جاء يوم وانصدمت المصالح بالمصالح، وتبيّن ما هو زائف ممّا هو صالح، وعرف صاحبنا أنّ الحقيقة التي وصلت إليه كانت وهماً جميلاً، زيّنه منظّروه بالكلام المعسول والوعود البرّاقة التي تبخّرت لحظة الجد، وأنّه لا فرق بين حقائقهم وحقائقنا وحقائق قوم آخرين إلّا في طريقة العرض!

لا فرق بين حقائقهم وحقائقنا وحقائق قوم آخرين إلّا في طريقة العرض

بيد أنّ صاحبنا لم يرد الظهور منكسِراً أمام أهل حارته الذين وسمهم بالضلال، فتحامل على نفسه، وادّعى أنّه بلغ في الفكر الجديد مرتبةً أعلى من مُبشريه الذين جاؤوا به إلى الحارة، ولذا فقد أعفوه من كلِّ ارتباط معهم، كي يجدَ الوقت الكافي لتطوير فكرهم "العتيق" (هكذا وصفه)، حتى يُلائم مستجدات الزمان. وبعد هذا التصريح، لم يعد أحدٌ يراه في الحارة!     

(3): حكاية رجل المرور عُبَيد

"عُبَيد" أقدم رجل مرور في حارتنا؛ فأنا أعرفه منذ زمنٍ بعيد؛ بجسمه الضخم وشاربه المفتول وثيابه الزرقاء التي كنتُ أشبّهها بثياب السنافر. وكان قد قضى أغلب فترات دوامه في إحدى زوايا حارتنا المميّزة، لم يبارحها حتى وفاته، وكأنّها بيته الخاص؛ فقلما كنّا نجده في مكانٍ آخر باستثناء أيام الاحتفالات الرسمية التي خفت بريقها في الآونة الأخيرة، وهذا له حديث آخر.

كلُّ سائقي حارتنا يحبّون عُبَيد؛ وهذه علاقة غريبة مُنافية للواقع. والسرّ في ذلك أنّ عُبَيد كان يُعامل الكل باحترامٍ لا يجدونه عند "السنافر" الآخرين الذين يريدون تطبيق القانون بحذافيره، أو هكذا يوهمون السائقين من أجل "حق ابن هادي"؛ ولمَنْ لا يعرف هذا المصطلح (حق ابن هادي) من إخواننا العرب؛ فهو مصطلح نطلقه نحن اليمنيين على الرشوة. أمّا لماذا سُميت بحق ابن هادي، فيجيب الشاعر عبدالله البردّوني في كتابه "قضايا يمنية"، قائلاً: "أصبحتْ كلمة (حق ابن هادي) رمزاً صارخاً على الرشوة لمجيئه من حادثة، وذلك أنّ وفداً إنكليزياً أراد الوصول إلى صنعاء من طريق الحديدة، ولم تسمح له قبيلة (الحواقر) وأميرها الشيخ هادي بالمرور إلا بأمر إمامي من صنعاء، ولم يقبل الشيخ هادي الرشوة من الوفد فدلّه أحدهم على رشوة ابن الشيخ هادي، فنجح الوفد في الوصول إلى صنعاء وإن فشل في مقابلة الإمام للتفاوض" (ص: 412-413). ويذكر البردّوني في مقابلة معه أنّ زمن هذه الحادثة عام 1926م.

وقد ذكر البردّوني المصطلح في شعره بقوله:

يا بلادي! التي يقولون عنها: منكِ ناري ولي دخانُ اتّقادي

ذاك حظّي لأنّ أمي (سَعودُ) وأبي (مرشدٌ) وخالي (قَمَادي)

أو لأنّي أطعمتُ أولادَ جاري ورفاقي دفاتري ومدادي

أو لأنّي دفعتُ عن طُهْرِ أختي وبناتي مكْرَ الذئابِ العوادي

أو لأنّي زعمتُ أنَّ لديهم لي حقوقاً من قبل حق (ابن هادي)

ملاحظة: (سَعود) اسم نسائي منتشر في الريف اليمن!

وتستمر الحكايات.

 

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى