ملف العنصرية: "فليعودوا من حيث أتوا" (8)
صادف وجودي في إسطنبول مؤخراً الانتخابات التركية التي شهدت للمرة الأولى في تاريخها دورتين متتاليتين للاقتراع بدل دورة واحدة، وذلك لعدم حصول أيّ من المرّشحين للرئاسة على نسبة الخمسين بالمائة زائد واحد المطلوبة للفوز.
كانت هذه الدورة مثيرة للاهتمام، خصوصاً بما أشاعته حملات المرشحين فيها، من خوف عند الأجانب المقيمين في تركيا، إن كانوا من نازحي الحرب السورية، أو أيّ من أصقاع الأرض المنكوبة كالعراق ولبنان وفلسطين. لكن أكثر الإشاعات انتشاراً، وبالتالي إثارة لرعب هؤلاء، كانت حول عزم مرشحي المعارضة إن فازوا، طرد الأجانب، ولو كانوا يملكون بيوتاً هنا أو مؤسسات وشركات.
كنت أسمع هذه الإشاعات، وألمس لمس اليد تخوّف الكثيرين من أصدقائي الذين ظنّوا أنهم، إن كانوا يلتزمون بالنظام والقوانين، سيكونون بمأمن في هذه البلاد الجميلة. ومع أنّ غربتهم مضاعفة بجهلهم اللغة، وجهل غالبية الأتراك بأيّ لغة ثانية، إلا أنهم كانوا راضين رضا الغريب المؤدب بما يُقدّم إليه.
وكعادتنا كصحافيين ومهتمين بالشأن العام، اتفقنا أن نمضي سهرة فرز الأصوات عند بعض الأصدقاء الأتراك حول طاولة العشاء، مستمعين لشرح من يجيدون الإنكليزية منهم حول ما يجري.
كانت هذه الدورة من الانتخابات التركية مثيرة للاهتمام، خصوصاً بما أشاعته حملات المرشحين فيها، من خوف عند الأجانب المقيمين في تركيا
هكذا، شاهدنا بثّاً مباشراً تخلّله، درءاً للملل، مشاهدة العديد من الفيديوهات التي جرى تداولها حول هفوات المرشحين الكوميدية، أو عن تعرّض أتراك متعصبين قومياً، للنازحين السوريين خصوصاً، بالضرب والإهانة.
وقد لفت نظري بين هذه الفيديوهات الأكثر تداولاً، فيديو لزعيم حزب النصر القومي المتطرف في تركيا، أوميت أوزداغ، متجولاً بين الناس، كما يفعل المرشحون عادة في المواسم الانتخابية، متحدثاً إليهم عن شؤون عامة لها صلة ببرنامجه المعلن.
هكذا، اقترب في أحد الأسواق من شاب ثلاثيني، عامل عادي، وسأله إن كان يريد أن يعيد "النازحين السوريين من حيث أتوا"، كما كان هو يعد في برنامجه منذ بداية حملته الانتخابية إلى جانب كمال كلجدار أوغلو، مرشح المعارضة ومنافس الرئيس رجب طيب أردوغان.
بدا أنّ أوزداغ كان واثقاً من إجابة الشاب، في ترجمة لجو شعبي عام استجاب، على خلفية انهيار العملة التركية والتضخم المتزايد، لحملة تحريض على النازحين السوريين هنا.
لكن المفاجأة جاءت من الشاب. فقد بدا هذا الأخير لوهلة متفاجئاً بالسؤال. لكنه بعد هنيهة من الحيرة أجاب بالنفي بشيء من اللامبالاة! ما استفزّ أوزداغ، إضافة إلى أنه فاجأه، لدرجة أنه لم يمسك نفسه عن الردّ بانفعال "إذا فلنعيدك أنت"!
حسناً. ضحكنا كثيراً مع الأصدقاء. مع إننا لم نفهم إلى أين أراد هذا المرشح أن يعيد مواطناً تركياً!
هل كان يقصد شيئاً محدّداً عصياً على فهمنا كأجانب؟ هل كان الشاب كردياً مثلاً؟ أرمنياً أو ألبانياً؟ لم نفهم. فهذه الإيماءات المضمرة لا يمكن التقاطها بسبب حاجز اللغة وجهلنا بمرجعياتها. لكننا، واستطراداً للجو الكوميدي الذي أشاعه هذا الفيديو على وسائل التواصل وبيننا، قلنا فلنقم، بانتظار نتائج الفرز، بتمرين عنوانه "ما الذي سيحدث لعالمنا إن عاد كلّ منّا من حيث أتى؟".
أكثر الإشاعات انتشاراً، وبالتالي إثارة للرعب، كانت حول عزم مرشحي المعارضة في الانتخابات التركية، إن فازوا، طرد الأجانب، ولو كانوا يملكون بيوتاً هنا أو مؤسسات وشركات
وبما أننا نتحدث عن الأتراك، فلنبدأ بهم. هكذا سنعيد أكثر من ثلاثة ملايين ألماني من أصل تركي من "بلادهم" إلى بلادهم. أما إن أراد الألمان أن "يتلأمنوا"؟ فمن الممكن أن يعيدوا أكثر من 12 مليون تركي مقيمين على أراضيهم حالياً، حسب موقع "ألمانيا بالعربي".
ماذا عن الولايات المتحدة الأميركية؟ الأرجح أنها ستفرغ إن عاد كلّ من فيها "من حيث أتوا"، اللهم إلا من نجوا من مجازر التطهير العرقي، أي الهنود الحمر، فهم أصلاً من هناك. أما من يسمون بالروّاد، في تمويه لحقيقتهم كمستوطنين مرتكبي مجازر وحشية (معظمهم كانوا من الخارجين عن القانون أو المحكومين المنفيين إلى العالم الجديد)، فسيعودون "من حيث أتوا" أي إلى القارة العجوز وبلدانها كالبرتغال وإسبانيا وبريطانيا إلخ. أما أفارقة أميركا؟ فكما يدل وصفهم، معروف إلى أين سيعودون.
ومن التشيلي تحديداً، ستعود "سفينة نيرودا" بركابها الإسبان الهاربين، يومها، من الحرب الأهلية، إلى الشواطئ الفرنسية أولاً (راجع رواية إيزابيل الليندي بالاسم نفسه)، حيث نُصبت لهم فيها مخيمات للنازحين عانوا فيها الأمرين من عنصرية فرنسية أجبرتهم على النزوح مجدّداً إلى تلك القارة البعيدة حيث استوطنوا.
ومن أميركا اللاتينية عامة، سيعود أكثر من 14 مليون لبناني (حسب أرقام العزيز جبران باسيل) هاجروا إليها منذ أوائل القرن التاسع عشر.
كندا أيضاً ستفرغ بعد أن يعود سكانها غير الأصليين "من حيث أتوا"، إن كان بريطانيا أو أوروبا عامة، كذلك ستفرغ أستراليا من مستوطنيها الجدد، أي الذين هبطوا على أراضيها منذ اكتشاف الرجل الأبيض لها، والتي فوّلت في العقود الأخيرة باللبنانيين، خاصة من الطائفة العلوية (لا أعرف لماذا في الحقيقة)، ما سيجعل منطقة "جبل محسن" في طرابلس، لو عاد هؤلاء من حيث أتوا، مكتظة بشكل مهول.
وبما أننا وصلنا إلى لبنان، ستعود بيروت بعد أن تفرغ من الوافدين إليها، قرية شاطئية، تعيش فيها العائلات البيروتية السبع، مثل آل شاتيلا والداعوق وطرزي وسنجقدار.. إلخ. إلا إذا عاد بعضهم إلى مسقط رأسه الذي هو بكلّ بساطة: تركيا!
ستفرغ أميركا من سكانها إن عاد كلّ من فيها "من حيث أتوا"، اللهم إلا من نجوا من مجازر التطهير العرقي، أي الهنود الحمر
طبعاً هناك خسائر حضارية بالجملة، وبعضها سيكون كبيراً جداً. مثلاً، سيعود محمد علي باشا إلى موطنه ألبانيا، ولن يقوم بأيّ من جهوده المشكورة في مصر، ومواطننا العزيز، جبران خليل جبران، سيعود إلى قريته بشري، ونظراً للحساسيات الطائفية لن يستطيع أن يكتب رائعته "النبي"، وإلا لبَرّحه اللبنانيون ضرباً، ما سيجعله يكتفي بكتابة يوميات التنمّر عليه في "الأجنحة المتكسرة". أما ستيف جوبز؟ فسيبقى في سورية، ولن يتبناه أحد، إلى أن يستشهد في غارة إسرائيلية ما، أو ربّما يكون مجرّد نازح في مخيمات النازحين في بلدة عرسال اللبنانية يعاني من عنصرية اللبنانيين، ومع ذلك يمتنع عن العودة من حيث أتى خوفاً أو طمعاً ببعض المساعدات النقدية التي تقدّمها الأمم المتحدة بالدولار الفريش..
لكن، ولأعترف بهذا: هناك حسنة واحدة لهذه الفكرة: ستفرغ فلسطين من محتليها، فيعود كلّ منهم من حيث أتى، إن كان بولندا، النمسا، المجر، فرنسا، بريطانيا أو ألمانيا. وبالطبع سيعود يهود لبنان وسورية ومصر واليمن والعراق إلى بلدانهم. وحتى يهود الفالاشا، سيعودون إلى إثيوبيا من الأرض الموعودة بالعنصرية، ليشاركوا في القتال الدائر بين قبائل الأورومو والتيغري والأمهرة.
وبالعودة إلى أوميت أوزداغ، فإن كان يعني بتعبير "من حيث أتوا" بلاد مسقط الرأس، فسنعيده إلى... طوكيو! أي والله. فقد تبيّن أنّ رأسه "سقط" هناك، أو ربما سقط على رأسه، ما جعله شخصاً لا يتورع عن استخدام خطاب الكراهية المقزّزة ليصل إلى السلطة، متلاعباً بحياة ملايين النازحين الذين ربما فاقت فوائدهم سياسياً لبلاده، كلّ الأضرار التي لا شك يتسبّب بها بعضهم.