ملف العنصرية: أنا أكره إذن أنا موجود (9)

03 يونيو 2023
+ الخط -

إذا سألت أي أحد اليوم: هل أنت عنصريّ؟ فسيُجيبك جواباً عاطفياً مفرغاً من الواقعيّة: لا مطلقاً، نفس السؤال لو طرحته في الماضي على نازيّ، أو أميركي ستكون إجابته بلا، فأنت لست بحاجة لتكون عنصرياً ما دام القانون عنصريّاً والثّقافة عنصريّة.

الإجابة المثالية هذه تُشبه تماماً الحياة المثاليّة، واجهتها كجدار قصر البرلمان لكن تعبُر من تحتها أقذر مجاري المدينة، فالكلّ بريء ما دام الاعتداء الرّمزي لا يستطاعُ القبض عليه، إنّه يتكاثف داخل الحياة اللّغوية ولا يمكن الشّعور به إلا حينما يلامس تلك الأسطح الباردة.

قد يكرهُك النّاس لأنّك لم تعتذر، أو لم تعش النّسخة التّي حُضرت لحياتك من قِبلهم، قد يكرهونك بحروبهم، أو تنمرهم، أو أشكالهم، فالمحبة بقدر ما هي ملاذ وهدفٌ إلا أنها عاجزة، فالذين تجمعهم الكراهية والعنصرية أقوى، وقد صدق تشيخوف  في "دفاتر سريّة" حين قال: "الحبّ والصّداقة والاحترام لا توحّد صفُوف النّاس قدر ما توحدّها الكراهية العامّة".

لقد رأينا أوروبا كلّها وحّدتها كراهية روسيا أكثر من حربها، لهذا حاربوا كلّ ما هو روسي في كلّ مكان. كتبٌ، موسيقى، لوحات، قطط. حدث الأمر نفسه حينما قام الطيارون اليابانيون بإلقاء أنفسهم على البواخر الأميركيّة تعبيراً عن كراهية الآخر المطلقة، رأيناها في عالمنا العربي المشحُون بأفكار الجريمة والنبذ وفِرق الله النّاجية، فحتى الناس الذّين عشت حياتك لا تكنّ لهم أي مودّة، سيحبونك وتُحبهم يوماً، قد تكره أعداءهم، فيُصبح فعل الكراهية سبباً للمحبة.

حقاً ما أغرب البشر، يحبونك لأنك تكره، ويكرهونك لأنك تحبّ! هكذا يتبنى الكثير من النّاس بل مجتمعات، أو تكتلات كوجيطيّة.

"أنا أكره إذن أنا موجود"، إذ لا يجمع النّاس أي شيء سوى كرههم للأمر نفسه، لنشهد ظهور واحدة من أقوى العلاقات المؤذية، وقد خلص إليها تولستوي حينما قال إنّ نابليون كان من المُحال عليه أن يقُود جحافل الفرنسيّين ليغزو بهم أوروبا دون أن يوحدّهم على قلب رجل واحد على كراهية من سيُحاربونهم. فالنّجاة هنا لا تعني سوى التّورط أكثر. إننا سننجو يقُول أليساندرو باريكوفي في "البحر المحيط"، لأجل الكراهية التّي نحملها ضدّ أولئك الذّين تخلوا عنّا، وسنعود لنحدّق في عيونهم، ولن يكون في إمكانهم بعد ذلك أن يناموا، ولا أن يعيشوا، ولا أن يفلتوا من اللعّنة، لعنة أن نكون نحن في عيونهم، أحياء، وهم في كل يوم يقتلون إلى الأبد بخطيئتهم".

يقول أرسطو تكلّم حتى أراك، شرط الرّؤية عند أرسطو مُرتبط بالكلمات، والكلمات مرتبطة بالتفكير، فالأشخاص يُرَون من خلال أفكارهم، ونراهُم من خلال أفكارهم، الجسد مجرّد وعاء يحمل تلك الحُمولة الوجوديّة التّي على أساسها تحدّد الذّات علاقتها بالمحيط، ويُصبح إبداء رأي ما أو طرح فكرة ما ملخصاً أو مفتاحاً لمعرفة ما تحمله اللغة التّي ولجت إلى أعماق التّفكير.

الرأي إذن ما هو إلاّ اختبار للذات في علاقتها الأفقيّة تارة، وتارة أخرى لعلاقتها اللّغوية في شكلها العمُودي، وحينما يطوّر هذا الرأي مفهوماً ضمن نطاقه، يُصبح مرتبطاً بفكرة الكره العقليّة، تلك الفخاخ الباطنيّة المغطاة جيداً بالأيديولوجيا تسهم كثيراً في خلق المزيد من التّبرير الأسود.

ربما يحتفظ الكره في بعض المواقف بنطاق لا يتجاوز النّطاق العقلي، فالناس التّي  تفكر عبر الكراهية ستستثمر فيها تطبيقياً، وهذا عائد إلى جرأة القبول، الكلّ يتّفق، لكن هل يقبل هذا الكلّ؟

أخلاقيات القبول تنتظر أوضاعها الخاصّة حتى تتحوّل إلى أخلاق عامة، وقد رأينا ذلك في خطاب الرئيس التونسي (قيس سعيّد)، فما إن تتأزم الأمُور، وتتقلص الحُلول الأخلاقية، أو الحلول الخضراء، تعُود تلك العلاقات القاتمة لتلمع من جديد، ويتحوّل الكره من حالة عقلية إلى حالة تطبيقية، انطلاقاً من النّفي من الكينونة كرأي إلى الكره، وهو النّفي التام من الوجُود إلى محاولة  الفعل التطبيقي وخاصة في موضوع خطر الهوية، فالشعوب لن تذهب لقراءة دريدا لكي تفهم الصّداقة والسياسة أو الصداقة والأفكار، هي لن تصل إلى الاعتراف بالآخر وتقبله ولكن تعرف كيف تكره وتعرف كيف تحوّل الكره إلى فعل وهذا ما يجب ردعه.

يقول أرسطو تكلّم حتى أراك، شرط الرّؤية عند أرسطو مُرتبط بالكلمات، والكلمات مرتبطة بالتفكير، فالأشخاص يُرَون من خلال أفكارهم، ونراهُم من خلال أفكارهم

في عالم يسودُه الرّعب من الاختلاف، تنمو أعشاب الكراهية الضّارة، فيرسم وجود يحكمه شبحُ اللّغة ببعدها العنيف، فهل الكراهية صناعة أم ملاذ؟

احتمى الكثيرُون بالكراهية، رؤساء وقساوسة وأئمة وغيرهم، بني العالم عن طريق الضّحايا لا الأبطال، ورُفعت أعمدة منظماته الإنسانية على أنقاض النّبذ والتّطرف والعنصرية، نعم، يحبّ الناس العيش في سلام، لكن أيّ سلام يقصدُونه؟ هل سلام بدُون أسلحة فتّاكة، أم سلام بدون أفكار فتاّكة؟ أم سلام بدون أشخاص يفتكّون بكسلهم التاريخي تجاه التغيير؟ إنّ السلام اللّغوي لدى الكثير من البشر يعني أن لا تختلف عنّي. نفس المقاس، نفس الحياة، نفس الطموح، نفس المستقبل، وحينما لا يتحقّق هذا يتحول الأمر إلى حقد، إلى كراهية، إلى عنصرية.

فقد نشأت مجتمعاتنا داخل حيّز التناسخ، لعبت السياسة والدّين دورها في قيادة الكُره إلى صالونات الأخلاق حتى تحوّل إلى مطلب لا استنكار، فعدم  تفهّم الآخر يحدث إقصاء، الإقصاء يؤدي للنبّذ ويزرع الكراهية، الكراهية تنتج العنف، مثبت علمياً أنّ مناطق التّفهم والتّعاطف في الدّماغ لا تحفّز ولا تعمل ما لم تحفّز مناطق العاطفة، يعني الحب، والحب كما أكررها موقف من الحياة وليس مجرد رابطة عاطفيّة.

حينما يفتقد عالمنا لهذا الموقف لأنه يحمل إرثاً لغويّاً كبيراً من العنف يخسر مقدرته على التّعايش وتتصدّر الكراهية وسائل العيش المحتوم، نحن نكره تلبية للوجود، ومن لا نتفق معهم في لون البشرة، أو سلوك الحياة، أو الرأي أو ماهية الذّات هم أعداء بالضّرورة، لأنّ عالماً تحكمه معادلة التناسخ تتسعُ فيه العصيّ والانتهاكات، الكلّ على مقاس الكلّ، الأجيال الجديدة ما هي إلا أجداد وآباء في نُسختهم الفتية، والأشخاص الذيّن هم على مرمى نظرك لكنّهم يعيشُون حياة ليست كحياتك، ينظرُون إلى مستقبلٍ لا تطلّ عليه نافذتك، ويتبنون نوعاً من السّعادة لا تتّفق عليها وإياهم، يجلبون لك الشّعور بالخطر، والتّعب الذّي لا تتحمّله خاصّة إن كان يشكل لك هؤلاء مرآة تعكسُ عجزكَ وكسلك لا حياتك، فيضخّم ذلك الشّعور بالعداء التقليدّي الذي يبدأ في التسيد، رفضٌ، ثم غضبٌ، ثم هجوم.

الآخر المختلف قد شكّل تهديداً مباشراً على تقليد ذلك المُجتمع المستسلم داخل نهايات لغويّة معروفة وسقف حياة حدد مسبقاً، إذ عاشت تلك الأجيال تورث طريقتها المثلى في الحياة، تلك الطريقة التي أصبحت زنزانة وجوديّة تضطهد فيها الجُموع الأقليات عن طريق عنف الأخلاق أو عنف السّلطة مستندة  للإرث اللغوي الكبير.

لقد لعب الأطفال نفس اللعبة، ارتدوا نفس الملابس، شاهدوا نفس الرسوم المُتحركة، أكلوا نفس الأطباق التي أعدّت بالطريقة ذاتها، وهكذا اتخذ المجتمع حالة عامّة للعيش ينتمي إليها الكلّ ويرتاحُ فيها الضّمير الجمعي، وتقلّ بذلك النزعة نحو التّغيير. أنت في سلام ما دام الكلّ يتفق، ولا أحد يُعارض، مجتمعات بلا طمُوح تتزايد فيها قلاع السّجون بدل المسارح والمخابر العلمية.

لكن ما الذّي ساعد هذه المُحتشدات على البقاء؟

تعتبر اللّغة واحدة من الأنابيب الضّخمة التي تضخّ العنف باستخدام الكلمات الأخلاقية، أو استمالة الرأي عاطفياً وتفريغه من المنطق، الجُمل التّي تعجبك قد تكون مليئة بالدماء وأوساخ التاريخ، عليك أن تشعر بالارتياب حينما يعجبك نص ما أو رأي ما أو خلقٌ عنيف أو كلّما أردت التصفيق بعد كلمة أحدهم، وتساءل هل أعجبتني الفكرة أم طريقة الفكرة في تقديم ذاتها؟

تتلاعب اللغة بأفكارك، نعم اللغّة الفاتنة هذه غالباً ما تستخدم فتنتها لتغويك لغوياً حتّى تتبنى فكرتها التّي تكون في الغالب ضد أفكارك، إنّ لها مقدرة عجيبة على الاستيلاء عليك حتّى إنّك لا تستطيع بعد أن تفتن التفّريق بين فكرة اللّغة ولغة الفكرة؛ الأولى تُشعرك بأنك استدرجت الصيغ الجماليّة لأن تتفّكك من جمالياتها كما تفعل النّساء العائدات من الحفلات التّنكرية وهنّ يمسحن المساحيق ويزلن الأقنعة البرّاقة والجميلة لتجد نفسك تضع يدك على يدها وهي تنزلق داخل قلب أفكارك لتقّلبها، أما الثانية فقد استدرجتك وكما كل مسحُور ينسى نفسه بين الكلمات يخرج من نص أو خطاب ألقي عليه بتصفيق حارّ يشق به أطراف الهواء، هو الآن معبور بالأشياء الفارغة والأخلاق العنصريّة التّي لا تترك في النهاية أيّ أثر فيه سوى انضمامه للحشد.

لقد غيرني ذلك الخطاب لكن لا أعلم ماذا كنت أريد قبله، سيكولوجيا التّفكير العنصري تبتدئ عند تعلّم ملكات المفهمة والتّصنيف وهذه الملكات تغرسها اللّغة في عقوُلنا، اللّغة بقواعدها وبحرصها على تصنيف كلّ شيء تدفعنا إلى مفهمة كلّ شيء في قوالب جاهزة تحتكم إلى قواعد ثابتة سنبقى نُطبقها تقريباً كلّ حياتنا على كلّ شيء وكل فكرة نصادفها، هكذا، وبعد أن ينخر هذا الميكانيزم طريقة تفكيرنا في عمقه، فإنّنا لاحقاً نسعى إلى خلق أنساق قاتلة لكلّ شيء يتكرر في نظرنا وفق قواعد تجعلها تتطور من الفكرة المُسبقة إلى الفكرة النّمطية إلى الفكرة العنصرية، فتجعلنا نتعامل مع الناس من نفس الانتماء أو المنطقة تماماً كما نتعامل مع المبتدأ والخبر في كل مرة نصادفه في جملة، والأمر يزداد تعقيداً لما تنفخ في هذه الأنساق أبعاد عاطفية ولغة ينعشها وجود الكره في شكله المقاوم، لغة أنا أكره إذن أنا موجود.