ملف| غزّة القطة التّي أكلت ألسنة المثقفين (8)

10 يناير 2024
+ الخط -

يقُول إدوارد سعيد في نقده للمُثقفين: "لا شيء في نظري يستحقّ التّوبيخ أكثر من تلك الطّباع الذّهنية للمُثقف التي تغري بتجنّب المخاطر، أي الابتعاد عن موقف صعب ومبدئيّ تدرك أنّه صحيح، لكنّك تقرّر ألّا تتخذه، فهل يعيدُ المثقف صياغة وجود معنى المثقف كلّما تغيّرت الظّروف؟ هل (المُثقف) مساحة قابلة للتّعديل على مقاس أفكاره أم على مقاسِ مصالحه؟ هل المُثقف في مصلحة ذاتهِ أم مصلحة هويتهِ أم مصلحة مجتمعهِ؟".

تخطُر على بالي الكثير من الأسماء حينما أبدأ في افتراض وجُودهم اليوم بيننا، الأسماء التّي لم تعنِها جائزة، ولا إقامة، ولا حياتها حتّى مُقابل موقفها، والتي استطاعت في أحلكِ الأوقات أن تُطيل لسانها ويطُول معه فكرها وموقفُها، فلا خِلاف في أنّ الكثير منّا أصبح اليوم يعلمُ بوجُود مثقّف عضويّ جديد أنتجه الرّبيع العربي، فبعد كلّ حرب ستزدهر أسماء جديدة تقُوم بفرض شُروطها على الثّقافة، ستقُود مجموعة من النّعاج إلى قول ما تريدهُ، والصّمت حينما تشُير إلى ذلك، ستدخل الكثير من الكيانات الثقافيّة عصر ركُود المبادئ، وسنكتشفُ أنّ ثمّة تواطؤاً تمّ التحضير له بسحب حيّز الأمان من تحت حريّتهم في التّفكير، لقد تمّ ربطهم جيداً إلى جذُوع ناطحات السّحاب، وتُركت ملامحهم تشوّهها الأموال والمُناسبات، مثقّف له جهة يدافعُ عن قيمها، ويتّخذ من عدم مشاركته في الفعل وسيلة للحكِمة، بالرّغم من أنّ دوره كمثقف يحرمُه من الصّمت كونه صوت الحقيقة، صوت المُضطهدين، صوت من لا صوت لهم، لكن الهُروب إليه أصبح فروسيّة في عالم يسوده تهديد "المِنحة" تجنّباً "للمحنة".

لقد صنع لنفسه ضرُورة جديدة، حيث فضّل التنازل عن دوره كمثقف نقديّ مقابل بقائه على الشّاشات، والحرب على غزّة لم تختبر أحدا، ولم تأتِ لتفعل هذا، بل فقط هزّت معنى "المثقف" ليسقط من كينونة غُصن المتخاذلين فيظهر مرتاباً من النّقد، مرتاباً من "لا" الصّريحة، يُفضل الاختباء بدل الاشتباك، تعنيه قضايا السلام التي لا تكون ضحيتها "منفعته"، مثقف يهربُ من القضايا المصيريّة، وإذا ما تحدّث فحديثه شبيه بالحديث الخافِت الذي يُقال في الأذن تماماً مخافةً من انتشاره. إنّه نميمة تُضاعفُ حقّ الكراهيّة في التّمدّد، وإذا ما رفعهُ قليلاً ملأت أفكاره المتاهة، يختار الجُمل الفضفاضة التّي يُستطاع تأويلها إلى ألف اتجاه، وهذه مواقف ضبابيّة وأفكار مسلوبة ومعاناة فكريّة، فليس المثقّف من يريد الصّلح أو من يبني التّوافق، بل هو شخص يلتزم ويُخاطر باستمرار بكلّ كينونته على أساس وعي نقديّ. المثقف لا يأكل من لسان أفكاره إلا لسان أمعائه، فكيف استطاع أن يُحافظ على ماء وجهه، هل بمواصلة الهُروب إلى الصّمت؟

مثقّف له جهة يدافعُ عن قيمها، ويتّخذ من عدم مشاركته في الفعل وسيلة للحكِمة، بالرّغم من أنّ دوره كمثقف يحرمُه من الصّمت كونه صوت الحقيقة

لا، إنّه في حاجة للكلام، في حاجة للظُّهور، وكلّما طال أمد الحرب أشعرهُ بالخطر، لهذا لجأ إلى طُرق هادئة، فمنذ بداية الحرب اختُرعت الكثير من المفاهيم التي تدعُو للصّمت، لكن بطريقة أخلاقيّة (..) مبرّرات للاختفاء حتّى تعبر المأساة، إنّه خيار المثقّف المختبئ لا المُشتبك.

البعض يدّعي تجنّب المشاعر السلبية بتجنّب الحرب وعدم مشاهدة الفظائع، لقد قامُوا بصناعة مساحة من اللامبالاة مُستعينين فيها بسرقة دور الضّحية من الضّحية نفسها، إنّهم لا يختلفُون عن أولئك المشاهير الذين ينشرون صوراً عن الفلسطينيين مدّعين أنّهم إسرائيليون، وقد رأينا ذلك بأعيننا حينما نشر مثلًا، المغني الشّهير جاستن بيبر تضامنه مع المُحتل بصورة من أحياء غزّة، والعجيبُ هي تلك النّزعة القويّة في سرقة المأساة بعدما تمّت سرقة البيُوت والأرض والهواء والماء. ففي الرّدود كانوا يعارضُون كلّ تعليق يصحّح ذلك الخطأ، إنّهم مصرّون ولو كذبًا على أنّها تخصّهم، مصرُّون على سرقة الدّموع والحسرة والألم من عيُون أصحابها، وأنت إذ تقرّر دعوة الجماهير لتجنّب المشاعر السلبيّة، وتدعوهم لتجاهل الحزن وندبه، وكأنّه شأن لا أخلاقيّ، تساهمُ في انتشار الاحتلال ثقافياً، وتنسى أنّ الشّيء الأخلاقي الوحيد هو مُواصلة الحزن والغضب وتوجيه أصابع الاتهام  للمجرمين، وعجزك عن تقديم أيّ شيء (كما يروّج له الكثيرون) ليس حجّة لإغماض عينيك وابتلاع لسانِك، إنّك تعتدي على الآخر بمحاولتك تجريده من إنسانيّته ومبادئه.

الشعّور بالحزن هو شُعور طبيعيّ وجب عيشه، والهُدوء الفظيع الذي ساد صفحات المُثقفين ومنابرهم هو جريمة تضافُ إلى جرائم الحرب، ومطالبة المقاومة بالموت، سواء بقتل نفسها وانتحارها أو بمُوافقة العدوّ على مسحها أو تقديم نفسها كمُجرمة، بأن تُنادي بوقف الحرب التي عمرها تقريباً مئة يوم، ما هو إلّا مُحاولة بائسة للاقتطاع من التّاريخ. الحرب عمرها أزيد من أربعة عقود، و"أوقفوا الحرب" لا تعني سوى أوقفوها أمام أعينُنا، خذوهم خلف مصانِعكم واقتلوهم بعيداً عن الأنظار، نريد العودة إلى أسرّتنا لننام، ومدعاة العيش في خوف من النتائج، والعيشُ في خوف من ردّة فعل العدو، عيش العاجزين لا العقلانيين كما يدّعي البعض.

الاحتياط في أوقات كهذه يُصبح مجرّد ذريعة لعدم تغيير الواقع، وعدم العيش، وعدم التّفريط في الوحش لا الأبرياء، جبنٌ يرتدي وسام الشّرف، الخائفون من النتائج في الحُروب، هم الخاضِعون، المستسلمُون، فالنتائج في الحروب تتشابه، أنت ميتٌ كلّ يوم، ما الذي بقي لتخسره؟

 حياتك تُشبه حياة أجدادك الذين قُتلوا على يد العدو، أو دفنُوا داخل الأقبية مثل عمك، النتائج التي يخافُ منها هؤلاء هي مجرّد إعاقة في إرادتهم، إنّهم مقعدون، والسّلام الذي يسري في عروقهم ما هو إلا اسم أشيك لعملية الإخصاء، ما الفرق بين من ينزعُ أرضك، أو ينزعُ عنك حقك في الدّفاع عنها؟

مثقف يهربُ من القضايا المصيريّة، وإذا ما تحدّث فحديثه شبيه بالحديث الخافِت الذي يُقال في الأذن تماماً مخافةً من انتشاره

إنّهما سيّان، كلاهما يدافع عن وجود كذبة تاريخيّة، فقط الثاني سيكون على هيئة الذي يقفُ إلى جوارك حينما تموت في المخيمات، أو من يضعُ على قبرك القليل من الورود، بدلًا من أن يطلب منك بناء شرفة لورودك، أنت الذي لم تترك لك الحياة مقعداً إلّا وأخذته، عليك أن تتعلم بناءه بنفسك اليوم.

عوّدتنا الشخصية الثقافية الانهزامية المُتخاذلة على الغرق في التبرير، علمتنا كيف تجيد التغطية بالمُصطلحات، وما أوسع مصطلح الإنسانية البائس الذي فتح غرفاً فخمة في الفنادق، وبنى قصوراً ومصانع، ومنح الكثير من الجوائز، مع الوقت. إذن، وجد الانهزاميون غطاءً جديدًا للقضايا، في الحقيقة ما عدنا نعرفُ هل يدافع هؤلاء عن موت العزل غداً، كردّة فعل من العدو، أم أنهم يدافعون عن تأجيل موتهم فقط مثلما يحلو للعدو؟

مدونات
مدونات

مدونات العربي الجديد

مدونات العربي الجديد

 

النصّ مشاركة في ملف| غزّة لحظة عالمية كاشفة، شارك معنا: www.alaraby.co.uk/blogsterms