بين "دي دي" و"ذاكرة الجسد"... تهييجٌ أم تّهريجٌ أخلاقي؟
في حوارٍ مع الروائي اللبناني، رشيد الضّعيف، سألوه عن دور الكتابة في العالم العربي، فقال: لماذا يظنّ المُثقف عندنا أنّه أذكى من سائق التّاكسي؟ فالسّائق لديه خبرة حياتيّة مؤثّرة أكثر من كاتب رواية. وعلى وزن هذا السّؤال، يمكننا صياغة سؤال آخر: لماذا اعتقدتْ أحلام مستغانمي أنّ روايتها "ذاكرة الجسد" أهم من أغنية خالد "دي دي"؟ للمغنّي خبرة حياتيّة، وأحزان مؤثّرة، يُمكنها أن تتحوّل إلى موسيقى، فلماذا رأت الكاتبة، وقتها، أنّها ما يجب أن يختارهُ النّاس. فهل قدّم المغنّي خالد نفسه للعالم يوماً كمحاور أو كمغن؟ لماذا ترى أنّ الأدب أهمّ من الموسيقى؟
في رحلةِ الإنسان نحو النّجاح يمُكنه أن يرتكبَ الكثير من الغرُور، ويرفضُ النّتائج رفضاً نابعاً من "الإيغو" الذّي ضاعفه بوراثةِ اسم أسرته مثلاً، انتماءه الأيديولوجي، أو الاجتماعي، أو حتّى الجنساني، أن لا يتقبّل تعطّل قبوله عند الآخر لأنّه مملوء بفكرة الأعلى، وفكرة الاستحقاق، والضّرورة التّي لا يمكنك تجاهلها، وهو إرغام للذات والآخر على اتفاقٍ ماهيّته اضطهاد عفويّتك، اضطهاد الفشل في حدّ ذاته، عليهم أن يحبّوا ويحترموا أشياء بالوراثة حتّى لو تغيّرت الأزمان، وهنا يتمكّن هذا الإنسان من ممارسةِ الكثير من الحماقات التّي لا تنبع كما يظهرها هو على أنّها مشاعر عامّة، بل هي مشاعر ذاتيّة خالصة تنتابه لأنّه عجز عن لفتِ أنظار الآخرين إليه، وفي حاجته لأن يُرى وجب عليه افتعال أيّ شيء، الّتصفير بصوتٍ عالٍ، الدّق بالحذاء بقوّة على البلاط، الضّحك المُرتفع، الخُروج عن المألوف، سرقة أنظار الآخرين من آخرين، كأن تدخل إحداهن للرّقص، لا لترقُص، بل لتخطفَ من الفتاة التّي كانت ترقص هنالك الأنظار المصوّبة نحوها، فتبالغ في حركاتها، وهذا ما نتبيّنهُ فور قراءتنا لذلك المقال الهُجوميّ المُتداول عن المغنّي خالد، والذّيّ لا يعلم البّتة إلى أيّ صراع قد اقتيد حينما اختار النّاس أغُنيته، فالذاتُ الرافضة لاختيارات الأفراد، الرافضة للموسيقى، هي ذاتٌ دكتاتُورية ترفض التّخلّي عن كرسيّها، وقد تمكّنت عن طريق الاستعاراتِ من مُهاجمة الاثنين، المُستمع والمُغنّي، كانت في تلك اللّحظة بحاجةٍ ماسة لسرقة الأنظار، ولم تجدْ وقتها من وسيلةٍ سوى الأنظار المسلّطة على خالد الذّي بكلمتين (على حسبها) وصل إلى المجد، جملٌ تُريد بها سرقة المُوسيقى من معجبيها، مستخدمةً اللّغة للإطاحة باللّحن، لكن أيّة لغة، إنّها لغة الوطنيّة، القيم، والأخلاق، لغة "الذنب". واللافت أنّ خالد الذّي لم يكن يعرفُ يومها بوجُودِ فتاةٍ قادمةٍ من باريس إلى بيروت (على قولها)، أنّ موسيقاه المليئة بالبهجة كانت أذيّةً في مكان ما، موسيقى واصلت الانتشار لأنّها لم تعزف لتأخذ مكان ومكانة أيّ أحد، لقد أخذت حصّتها الوجوديّة، بينما الطّرف الآخر ما زال ينظر داخل طبق الآخر الجالس على نفس طاولة الوجُود، لا بحجّة مشاهدة ما بداخله، بل المُطالبة منه بأن يقدّمه له، أن يتنازل عن طبقه لهذا المُشاهد، أن يُضيف حصّته الوجوديّة إلى حصتّه، وهذا ما يحدث في الكثير من المواقف، حيث النّاس لم تعدْ ترى ما تملكهُ نظراً لاهتمامها المُبالغ فيه بما يملكه الآخرون، فيحوّل نظرة من حوله التلقائيّة إلى أشياء تملؤها مشاعر العار، ويقُوده شعوره الأخلاقيّ المزيّف إلى محاكمةِ الآخرين، لماذا اختار العالم "دي دي" خالد ولم يختر "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي؟ إحساس الآخرين بالعار لأنّهم لم يختاروها سيُساعدها على ملء ذاتها بالقُبول، أن يتعذّب الآخر كلّما شغّل "ديدي"، شأن يريح السّادية، يريحُ الذّات المليئة بالعتب الخشِن التّي تصعدُ دائماً بالجراح، لقد منعها "الإيغو" وقتها من مخاطبة القارئ قائلة: لماذا لم تشتر عملي؟ فقالت له: إنّك عارٌ على تاريخ المنطقة ورمُوزها، استخدام الأخلاق والمبادئ لإحراج الطرف الآخر وإشعاره أنّه يعاني خللًا في عفويته، وهو أمر غير بريء، هذا ما أرادت الكاتبة رميهُ في وجه عالمٍ يعيشُ على البطولات والشهامة، "العيش مع الحرج".
الذات الرافضة لاختيارات الأفراد، الرافضة للموسيقى، هي ذات دكتاتُورية ترفض التّخلّي عن كرسيّها
كلّنا يعلمُ أنّ للموسيقى مقدرة رهيبة على الانتشار، المُوسيقى التّي يقبلها الجسد كما هي وتستطيعُ أن تتسرّب من مساماته وتعيش تحت جلده فور سماعها، إنهّا سهميّة الولوج، لا تنتظر إقبالكَ عليها، بل هي من تُقبل عليك من بعيد، تخطفك من نومك، ومن تأمّلك، ومن صمتكَ، ومن صخبِك، تخطفُك من العالم أينما كنت، يكفي أن يضعها أحدهُم حتّى تستولي على مسامعك، على عكس الكتاب الذّي يعتمدُ على قرارك ثمّ اهتمامك ثم سعة صبرك، يعتمدُ أساساً على الوقت الطّويل والتفرّغ، الموسيقى تعيشُ يومياً مع النّاس وخفّتها في الوصول إليهم جعلتها الأقرب، إنّها لا يتفرّغ إليها، لذلك لا تمكن مقارنة انتشارها بانتشار كتابٍ ما على أهميّته، المُقارنة تنحازُ إلى الذّاتيّة لا المنطق، لأنهّما لا ينتميان إلى ذلك، ليسا في سباقٍ بين بعضهما البعض، كما حاولتْ الكاتبة أن تُظهر، فنحن نشغّل الموسيقى في كلِّ مكان، داخل السّيارة، في المنازل، داخل المطاعم المُكتظّة بالنّاس، على الشّواطئ في حزننا وفي فرحنا، نشغّلها ونحن نطبخ، أو نستحّم، أو نقُود، أو نرتّب البيت، أو نركضُ، لكنّ جمهور القّراء لا يفعلون ذلك، القراءة بقدر ما هي مُهمة لكنهّا لم تستطع أن تصِل إلى عدد كبير بتلك السّهولة، بعكس الموسيقى التّي هزّت الأجساد بالرغم من اختلاف أعراقهم وتوجّهاتهم، والسّبب راجع لأنّها لا تنافس أيّ أحد، إنّها حرّة تنطلقُ وحرّة تموتُ، ومعرفتنا لهذه البديهية (أنّ الموسيقى هي الأوسع انتشاراً من الأدب)، تحمينا من معاداتها لأنّها دائمًا ما تصل سريعاً إلى الآذان، لا يمكننا محاسبة العالم على مبيعات الأشرطة التّي تبلغ الملايين فيما الكتاب لا يحصدُها، علينا فقط أن نساعد العالم على القراءة لا أن نهاجِم موسيقاه، أن ننظر إلى الموسيقى كغريم معناه أنّنا ننظرَ بلؤمٍ، ننظرَ إلى أرقام المبيعات، لا الموسيقى ذاتها، نظرةً تجاريّة. الموسيقى تُساعدنا، إنّها موجودة منذ قرون، ووجودها هذا صاحَب الكتاب دون أن يشعرا معاً بأنّه ثمّة عائق في التّقدّم نحو الأمام، شكلا ثنائيا وجوديّا ولم أر أديباً يعادي أغنية فقط، لأنّها نجحت حينما تأخّر عمله عن الظّهور، بل قرأنا ما كتبه يوماً الروائي الراحل، غابرييل غارسيا ماركيز، عن المغنيّة شاكيرا، وكيف تناول ذلك التّزاوج الكولومبيّ بين موسيقاهم وحكاياتِهم، بين أجسادهم وعقُولهم، بين الرّوح في وعائها الموسيقيّ والأدبيّ، الجسد الرّشيق الذّي تهزه أغانيه والحكّاء سليل القُرون والخرافات، كولومبيا التّي ينتسبُ إليها غارسيا مثلما تنتسبُ إليها شاكيرا، وسعتهما الاثنين حتى قال الكاتب عن المغنية: "لا أحد بوسعه أن يغنّي ويرقص كشاكيرا، إذ تبدو وكأنّ الأحاسيس البريئة من اكتشافها هي . . وحدها". إذن، يمكننا اختيار الاثنين دائمًا، الموسيقى والقراءة، أن نستمتع بأغنية "دي دي" ونقرأ كتاباً، لأنّهما لا يتقاتلان، ولا يحاولان التحوّل إلى أبطال، أو إلى شرف ينتسب إليهما الوُجود، لا يمكن حصر هذا الوجُود داخل الدوائر الذّاتيّة وتسليط الذوق الذّاتيّ عليه، والأحكام الذّاتية، خاصّة إذا ما رفضنا الابتعاد عن كونهما إرثا إنسانيا، هنالك الكثير من الذّين استمعوا إلى أغنية "دي دي" وقتها وماتوا كأبطال في ثوراتٍ لاحقة، وهذا ما يتنافى مع ما حاولت تقديمه الكاتبة في مقالها ذلك، حينما قالت: "لو عادت إسرائيل اليوم لاجتياح لبنان أو غزة مصر لما وجدنا أمامنا من سبيل لتعبئة الشباب واستنفار مشاعرهم بالوطنية سوى بث نداءات ورسائل على الفضائيات الغنائية أن دافعوا عن وطن هيفاء وهبي وإليسا ونانسي عجرم أو مروى وروبي وأخواتهن فلا أرى أسماء غير هذه لشحذ الهمم ولمّ الحشود". وها هي أغنية "دي دي" غير موجودة اليوم، مع هذا جنُوب لبنان يُقصف، ومعبر رفح يُقصف، والجولان يُقصف، والسودان يُقتل وغزّة تُباد، فهل تستطيع "ذاكرة الجسد" على شعبيّتها أن تُوقف أمراً كهذا؟
حينما يختارُ الكاتب معاداة فنان مجاناً عليه أن يحذر من اللّغة
طبعا لن تفعل، لأنّ الوطنيّات لا تقتصرُ على من يجيدون الحديث، إنّها لا تتعلّق بالملابس الفخمة، والسيرة الفخمة، والعائلة الفخمة، والحُضور داخل الصالات الفخمة، يمكنُ لشخص اعتاد أصحاب الفخامة انتقاده، اعتادوا ازدراء حياته البوهيمية، أن يترك رقصته داخل المقهى الشعبيّ ويقدّم أشجع تضحية. إنّ الذّات تُدهشك، لذلك يعدّ مقال يبيح فيه أيّ شخص اسم آخر، باسم الشّعارات الواسعة، محاولة انتقام لا توعية، وحينما تُبدي أحلام حزنها على العالم العربي، نشعر بأنّه حزن لأجلها وغضب لأجلها. فتقول: "الحقيقة أنني لم أحزن أن مطرباً بكلمتين أو بأغنية من حرفين حقق مجداً ومكاسب لا يحقّقها أي كاتب عربي نذر عمره للكلمات بقدر ما أحزنني أنّني جئت المشرق في الزّمن الخطأ ففي الخمسينيات كان الجزائري يُنسبُ إلى بلد الأمير عبد القادر وفي السّتينيات إلى بلد أحمد بن بلّة وجميلة بو حيرد وفي السّبعينيات إلى بلد هواري بومدين والمليون شهيد واليوم يُنسب العربي إلى مطربيه إلى الْمُغنِّي الذي يمثله في ستار أكاديمي"، إنّها تحاول التقّليل حتى لا أقول التّحقير في تعبيرها عن "الشاب خالد"، وعلى محبيّ الموسيقى دون الشعور بأيّ إحراج لأنّها غطّت جيّداً ذاتها باللغة، ثم واصلت قائلة: "هذا الرجل الذّي يضع قرطا في أذنه ويظهر في التّلفزيون الفرنسيّ برفقة كلبه ولا جواب له عن أيّ سؤال سوى الضّحك الغبيّ أصبح رمزا للجزائر".
إنّ محاسبة الأغنية للوصول إلى محاسبة مؤدّيها، طريقة بالغة الخطورة
لقد لجأتْ هُنا إلى تشويه المفاهيم فنسبتْ الجزائر لخالد، وهذا التلاعب باللغة قد يفسد مزاج القارئ الجيّد، فخالد هو من يُنسب للجزائر وليس العكس، وحينما يختارُ الكاتب معاداة فنان مجاناً، عليه أن يحذر من اللّغة، يمكنها أن تغطّيك أمام المُعجبين، لكن لا يمكنها أن تفعل ذلك أمام الذّين أجهضوا وهم الافتتان. قد يعتاد النّاس على أن يكونوا الأفضل ويساعدهم هذا الاعتقاد على تحوير اللّغة، لكن يفوتهم أمر في غاية الأهميّة أنّ خالد لم يأتِ بالصّدفة، لم يأتِ ليتحدّث، أو يُحاور، خالد لم يقبله العالم لأنّه أمهر المُتحدّثين، بل قبله لأجل صوتِه، لأجل الأغنيّة التي أدّاها ووجدت في داخل النّاس صداها البعيد، الجسدُ يحتاجُ إلى الموسيقى مثلما يحتاج العقل إلى الكلمات، والجسد يريدُ أن يسترخي وتصعد روحه فوق المدرج الموسيقيّ، مثلما يفعل التفكير حينما يغرقُ بين الجمل.
إنّ محاسبة الأغنية بهدف الوصول إلى محاسبةِ مؤدّيها، طريقة بالغة الخطورة، فالعالم سيختارُ ما يحبّه، الآخر ليس مجبراً على الأخذ بالقيم التّي تنطلق من مراقبة المبيعات بدل الانطلاق من مراقبة الذّات، خالد عضويّ غرامشي، قريب من لهجة العامة، ويحملُ في أغانيه حكاياتهم الشّعبية، التاريخ الذّي همّشته أحلام في كتاباتها، خالد صاغ بعضه في أغنياته، ولو بكلماتٍ وهرانيّة قليلة، والفتاة التّي تزامن وصُولها إلى بيروت مع وصُول أغنية الشاب خالد "دي دي" إلى العالمية وجدت فيه فريسة سهلة المنال لتهاجمَ أذواق النّاس وتشكّك في وعيهم ومقدرتهم على اختيار الأفضل، كان عليهم أن يقرؤوا "ذاكرة الجسد" بدلاً من سماع أغنية "دي دي"، إنّها تختار لهم وعنهم ما يُريدون، ديكتاتوريّة أدبية نسيت أنّ أغنية "ديدي" لم تبدأ من بيروت بل وصلت إليها بعدما لفت كلّ العالم، على عكس "ذاكرة الجسد" التّي فشلت في الجزائر وبدأت في بيروت، فكلٌّ وصل لبنان، لكن على اختلاف حمولته.