إيمان خليف وعنف الذّوات المطرودة من أجسادها
يعاديك الآخر لأنّك لا تُشبهه، أو ترفضُ أن تشبهه، يعاديك لأنّك حلمت، يعاديك لأنك لم تنهزم كالحالات التي سبقتك إلى هنا، استمرارك يضاعفُ الخطر عليه، مشاركتك للعالم معه يهدّد سيطرته، سيهاجمك بالضّحك عليك أو بالاشمئزاز منك، وربّما بضربك إلى أن تكره ذاتك، وتستحقر ما كان سيميّزك، سيدمّر فيك ما لم يولد بعد، وستموت تحت عجلات الاستغناء، إنّ الرّفض هي الوسيلة التي سيهاجمك بها، سيلاحقك داخل كينونتك ليطردك، يهزمك بغرس عدم ثقتك فيك ويترك الخارج للبقية الذين سيأتون ويكسرونك بطرقة واحدة، فحينما يفلسُ العالم أخلاقياً يضعُ الإنسان للبيع وحينما يفلس جمالياً يسند رأسه للعنف، يكابرُ وتختفي من الكون آليّة الاندهاش التي تحبب فينا الرّحلة، تحبب فينا الآخر كونه جزءاً منّا، يصبح مصبوغاً بنهاية متوقعة وكريهة مثل منحدر في طريق نعرفها، بلا سؤال، بلا صعوبة في التّخمين، مليء باللّصوص الذين سرقوا الرّغبة والأمان ونسبوا مستقبل العالم إلى نظراتهم الخاصّة، حياة مسترسلة في أجوبتها المكررة التي تحمل الكثير من السيّطرة، الكثير من العقاب، فما دُمت لا تستطيع الوصول إلى ذاتك كونها ذاتك، فإنّك مطرود من كونك وكيانك، أنت ضحيّة وأسلوبك في المعاناة هو قبولك بالتزام مكانك، حرموك من حبّ نفسك، لقد أصبحت مجرّد آلة وغالبا مجرد أداة حيث تتمّ صياغة الضّوابط الجمالية كفضيلة وهذا هو التشوه الحقيقي، فحيث ينتهي التّوصيف وتنتهي الغرابة والدّهشة لا تنتهي المخيلة بل تعجز.
إن عالما سيّجته القوالب عالم عنيف، عالم رفعت أسواره الصّناديق، عالم كمقبرة، مشانقه حريريّة وتمارس فيه أفظع الديكتاتوريات تحت مفاهيم عاطفيّة ومؤسسات شعارها الإنسانية، إنه لا يدافَع فيه عن الإنسان بل إنه يُضطهد، فإن كان لدينا – بالوراثة – باب مفتوح إليه فماذا عن المطرودين من أجسادهم؟ المطرودون من أمام أبوابهم؟ هل النّساء جميلات لأنهنّ نساء جميلات أم أنهنّ جميلات لأنهن سمحن بسرقة أجسادهنّ منهنّ والبشعات – حسبه – بشعات لأنهنّ مطرودات من أجسادهنّ؟
لطالما استخدِم أو استغلّ الجسد للتّمييز أو للمتاجرة والتّربح، ولطالما كان لهذا الأمر ضحايا كُثر، ضحايا قبول الانضمام إلى سباقٍ خاسر أو ضحايا رفض الانضمام إلى تلك الخسارة المُسبقة، فيعاني الكثير من الأشخاص جرّاء طبيعتهم، سواء تعلّق الأمر بأشكالهم أو هرموناتهم، يتلقون يوميا كميّات طائلة من الرّفض من طرف عالم صاغ قبل أن يجيئوا إليه معالم المنتسبين إليهِ، هيئاتهم وحدودها، ووضع تصنيفاته المؤذية ورفضه الوجوديّ لأطفال ما زالوا بعد داخل الأجنّة أو داخل أحلام أهاليهم يتنعمون بجيناتهم الوراثيّة، لقد تحوّل الجمال إلى عنف، وتعريفه إلى قبضة حديديّة، وتحولت الكثير من النساء جرّاءه إلى نماذج مثالية ومن ثمّ أداة يتمّ من خلالها تعنيف طبيعة الأخريات، إذ تعيشُ الكثيرات منبوذات فقط لأنّهن بقين على طبيعتهن، أو خلقن غير مستوفيات معايير العالم الجماليّة، أو لم تغرهنّ صيحات الموضة، لقد اخترع العالم لنا نحن النّساء تحديداً قالبه الجماليّ وحوّل الوصول إليه إلى هوس تلهثُ خلفه الأجساد، نساء كالدّمى داخل فيترينة الرأسمالية حيث لا يتوقف الأمر عند نهب أموالك بل وينهبُ منك اختلافك، طبيعتك، ينهبُ منك ما تحبّ، ينهبُ منك جسدك الذي يحوّله لاحقاً إلى عارض لسلعه.
حوّلت إيمان كلّ مشاعر الإقصاء والتنمر والتّجريح والتّشكيك في أنوثتها الطبيعية البعيدة عن مختبرات التجميل والشركات العابرة للقارات إلى عزيمة مُضاعفة
إنّك تشاركين في طرد الكثيرات من أجسادهنّ كلّما بالغت في غرقكِ داخل الاستعراض، وذلك الذي تسمينه جمالاً وتدافعين عنه بالذّوق الخاصّ تكتشفين لاحقاً أنّه ذوق شركات التّجميل والأسواق العالمية للجمال، لقد سُرقت منك ملامحك وسُرق منك جسدك في الوقت الذي آمنت فيه بفكرة الشّكل المثاليّ، وتجنباً للقهر الجماليّ والرفض الديكتاتوريّ رضخت الذات لصناعة الملامح، العالم يرفضك لا لأنّك على خطأ بل بغية إرضاخك، أنت زبُونه ثم سلعته، إنّه يمارس عليك عنفه الرمزيّ الذي يسمى العنف العاطفيّ، يبدأ الأمر بالرّفض وينتهي بالتّحطيم، وقد يصل إلى التّشكيك في أنوثتك، يدعس كلّ شيء بغية الوصُول إلى منفعته وتوسيع سوقه، فتجد نفسها الذات مطرودة من جسدها.
واليوم إذ نشهد ما يحدثُ مع الملاكمة الجزائريّة إيمان خليف في الحملة التي تتعرض لها من رفض وطرد من جسدها، أي الطرد من كينونتها وتصديها لذلك باستمرارها "كأنثى" على معاييرها رافضة بدورها التنازل عن ماهيّتها فإنّها تحرّك في كلّ النساء المطرودات من أجسادهنّ حول العالم معنى استعادة الذات من ناهبها، النساء المرفوضات والمطرودات من أجسادهن يقفن على أبوابهنّ من جديد ويشاهدن إيمان وهي تعبرُ ذلك الممرّ الخطير في تحدّ للطّبيعة الاصطناعية التي بنى منها أصحاب المال والنّفوذ يقينهم، ينظرن إلى إيمان وفيها يعِدن تركيب جمالهن المُفكك، الأمل يعيد الكثيرات من نظرات الآخرين إلى أنفسهن، ينظرن إليها وإلى فوزها على أنه فوزهنّ، لقد حققت إيمان بوصُولها واستمرارها وصُول الكثيرات اللواتي بقيت أحلامهن عالقة في المنتصف، وبقيت فرحتهنّ مدفونة تحت رغبة الآخر في كسرهن، فتحت لكلّ اللواتي يُتنمَّرُ عليهنّ وتُخطف منهنّ أجسادهنّ بابا يرفعن أمامه لافتة: "أنا مثلك يا إيمان"، كما كتبت إحداهنّ اليوم، وعلقت تحت حسابها الكثيرات من كلّ أنحاء العالم وبكلّ اللغات، إنهنّ يستعدن مقدرتهنّ على الرّفض من المجتمع القاهر المستولى عليه والغارق في إفلاسه الجماليّ.
حوّلت إيمان كلّ مشاعر الإقصاء والتنمر والتّجريح والتّشكيك في أنوثتها الطبيعية البعيدة عن مختبرات التجميل والشركات العابرة للقارات إلى عزيمة مُضاعفة وطاقة تدفعها نحو حلمها، لا يُمكنك أن تنتقم ممن يرفضونك ويشوّهون حقيقتك إلا بعدم الرّضوخ إليهم، فوزك هو الذي سيعيد إليك ما يحاولون سرقته منك، انتقام جديرٌ بالجمال يشبه هدوءها ورهافتها وهي تتحدث أو وهي تفوز وتنزل باكية أمام أنظار العالم المتوحش الذي يراقب فقط لكماتها ليُحاسبها على قوّتها وينسى أنّها امرأة حساسة يؤلمها أن يخطف منها الآخرون أبسط شيء طبيعي في العالم، أن يخطف منها أحقيتها في قول: أنا أنثى.
فكيفَ تبرهنُ الذات على أنّ الجمال قدّم رأسه للمقصلة منذ زمن بعيد؟
بأن تُشعر العالم بالحرج الوجوديّ، أن تفاقم في تحديّه، أن تذهب نحو المقصلة وتضع رأس جمالهم وتنزل عليه، أن تبقى كما هي، لقد جاءت إيمان خليف من قرية بعيدة بولاية تيارت، غربي الجزائر، من أسرة فقيرة، وحكاية حية مليئة بالتّحدي، جاءت حاملةً في روحها المُرهفة حلماً رياضياً نبيلاً، تُريد النّزال والفوز داخل حلبة رياضيّة عادلة، حلبة تعترفُ بقوّتها وجسدها الطبيعيّ للغاية، تعترفُ بشكلها بعيداً عن صالات التّجميل أو لنقل لا تهتمّ بهِ، إنّها تبحث عن وجُود يمكنه استيعابها كما هي بعيداً عن الوجود الذي سَنّ قبل مجيئها إلى الحياة قالب "الأنثى" واضطهد بذلك الكثير من النّساء رامياً الأتربة فوق وجوههنّ، المُلاكمة لم تكن فقط حُلمها بل الحياة التي تقبّلتها بلا شُروط وشجّعت فيها ما يميّزها "القوّة، الصّبر، الاتزان، النّبل" دون أن تُفقدها رهافتها كأنثى، باب لا يسمحُ فيه لك بالعودة من حيث أتيت، لا يهتّم بطردك بل بمقدرتك على تحويل كلّ ذلك إلى فوز، فوجدت نفسها اليوم مُطالبة لأجل أن تواصل ما تحبّ وألا تتنازل عن كونها امرأة لأن عالماً مليئاً بالرّفض والطّرد يستطيع أن يتاجر بأحلام البشر عند الضّرورة. لم تستسلم إيمان بل نازلت خصُومها في كلّ الحلبات، نازلت رفض العالم الذي حكم عليها بقوانينه ونظراته لا بكينونتها ووجُودها، لقد دخل إليها محاولا تشويهها، تشويهها ممّا تحبّ.
نعم، قد يستغلّ العالم ما تحبّه ليهزمك، ويحوّله إلى شيء تكرهه، الحريّة مثلا، لقد شوّهها العالم، وشوّه مفهوم "البطل" أنت الذي تريد الحريّة انظر إلى قوائم ضحاياك، لقد بقيتَ بلا عائلة وبلا مدينة، أن تكره القيمة التي كنت تعيشُ عليها، وهي طريقة العالم الخبيثة في رفضك، وفي رفض حقّك في الرّفض، قدّم ما تحبّه وسيستخدمه الآخر لتعذيبك، فكلّما كبر حلم إيمان كبر معه الرّفض، في البداية كان يقتصر على القرية، ثم المدينة، ثم البلاد، ثم العالم، واجهته هذه المرأة برهافتها في الواقع وانتصارها داخل الحلبة، لم يفلسها الرّفض، وكما استطاعت أن تجعل بيئتها التي تحدّت نمطيتها تدافع عنها بشراسة اليوم، ها هي تسير نحو حلمها ضدّ كل حيتان العالم، إنّها حرب الذات مع آليات الآخر، كيانك مقابل توحش المعايير المزدوجة المُسطرة، النّزال هنا بين المرأة وكلّ المفاهيم المبتكرة لأجلها. إنّها لا تنازل فقط الخصم، بل تنازل القوالب النّمطية، تنازل ماهيّة "القبول" المبتكرة، تنازل "الجمال" في حدّ ذاته، أن تقبل الآخر لا تحتمل أن تستثني الحقيقة، لا يمكن أن تقبلهُ بشروطك، القَبول شرطه ألّا تلغي إرادة تلك الذات بتسليط العنف الرّمزي عليها المتمثل في إجبارها على التّحول إلى طبيعتك لا طبيعتها، أن تقبل بالتنازل عن طبيعتها مقابل قبولك لها على طبيعتك، هو تقديم رأس الجمال إلى المقصلة، فهل كنّا سنرى الحملة المسعُورة نفسها لو قالت إيمان لهذا العالم: أشعرُ أنني رجلٌ في جسد امرأة؟ بدلا من أن تقول: أنا أنثى وسأبقى أنثى؟ لا أعتقد.