فندقية اللغة والمعنى المحجوز سلفاً
الألفاظ التّي تعدّ "قبُورا للمعاني" عند الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون هي حُصون لها عند هاملتون، وأفلاطُون الذّي يفترض أنّ الوعي له الأسبقيّة على المادّة، يحسمُ وفق هذا القياس أمر المعاني التّي هي نتاج الوعي، بأنّ لها الأسبقيّة على الألفاظ التّي هي مُجرّد محاكاة لما هو موجُود في عالم المُثل من معانٍ وأفكار.
ويُشَبّه أفلاطون عمل الأديب بالمرآة، فهو ينقلُ المعاني والأفكار من عالم المُثل إلى الواقع عبر الألفاظ، لكن هذه الألفاظ كالصُّورة المُنعكسة في المرآة تبقى مزيّفة، وأنّ الأصل والجوهر هو في المعاني الأصليّة، وبهذا يكُون أفلاطون قد انتصر للمعاني على الأفكار، وعارضهُ تلميذه أرسطو الذّي ذهب للتّوفيق بين المعاني والألفاظ، معتبرا اللفظ والمعنى ركيزتين أساسيتين لبلُوغ النّص الأدبيّ غايته من حيث الفصاحة والبلاغة.
أمّا الفلسفة المُعاصرة عموماً، والفلسفة التّحليلية خصوصاً، فشَغلهما "المعنى"، إذ اعتبر البعض أنّ الفلسفة هي "تحديد المعنى"، فيما اعتبر البعض الآخر أنّ التّصوّر الذّهني الذّي يُشير إلى الألفاظ هو المعنى بحدّ ذاته. فالفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين، يعتبر أنّ المعنى هو للقضيّة لا للكلمة بمُفردها، فالعبارات التّي لا تعبّر عن العالم الخارجيّ لا معنى لها، بل تُصبح مجرّد لغو. لكن ما يحدثُ اليوم، أو ما ظلّ يحدث منذ القِدم وتمادى، بل وتغوّل اليوم، هو مُحاولة السّيطرة على المعنى، تلك الآلية التّي تعني مباشرة السّيطرة على الشّعور، ومن ثمّ السّيطرة على بعض الجمل والكلمات، فمهما كانت العِبارة حقيقيّة وغير مزّيفة فإنّها ليست كذلك بالنسبة لمُتلقٍ ما، ومهما كان تصوّرك الذّهني حراً، وحقيقيّاً، وخاصاً جداً، فإنّه انتهاكٌ صريحٌ لدى متلقٍ ما. فالجانب الدّلالي للفظة في العالم الخارجي لم يعد له مُستوعب ومُتلقٍ فحسب، بل أصبح له اسم ولقب وجذُور عائلة ينتمي إليها، أصبح له كاتب أو شاعر محاصر به وتحت رحمته وبين ظلاله. فإذا ما حدّدنا قضايا اللفّظ والمعنى لا يعني ذلك ّأننا قد حدّدنا فعلا اللفّظ والمعنى، بل إنّنا نحتاج بعد ذلك إلى تحليل التّجربة المُسبقة والزّمن في التّجربة والمحاكاة وانفتاح النّصوص على المعاني المتعدّدة. فإمبرتو إيكو يعتبرُ أنّه ما من وجُود لعمل مُنغلق على الإطلاق، ذلك أنّ كلّ عمل فني يعبّر في حقيقة الأمر عن سلسلة غير منتهية من القراءات، وكثيرا ما يضعُ الكاتب نفسه في محاججة مع الذّات: هل هذا النّص لي أم للقراءات في داخلي؟
أّما نحن اليوم فنعتبر التّجارب المفتُوحة التّي لا تملكُ حدوداً لتبنيها لأبطال جدد، ودخوُلها حياة أشخاص كثر دون مراعاة، لا للزمن، ولا للمكان، تلزمنا بتجاوز احتكارية اللّفظ والمعنى، ذلك أنّ كلّ عمل فنّي يعبّر في الحقيقة عن تداول تجاربه تحت مظلة التّكرار لا السرقة، وأوّل ما سنحتاج محاججته مع الذّات وقتها: هل هذا النّص لغيري فعلاً وأنا الذّي عشته سلفاً؟
لا يختلفُ كثيرا وقوف متسلّط على حياتك عن وقوف آخر على حياة كلماتك
نحبّ أن تكون تجاربنا خاصّة، فريدة، ولم تحدث لأحد سوانا، نحبّ فكرة الأوّل والأخير فينا حتّى في حياتنا البسيطة التّي يمكنها أن تكون تكرارا لا بدّ منه، مثل أن يكون شربُ كأس ماء على ضرُورته العامّة، خاصا للغاية، لهذا يستمرّ الإنسان في التّفنّن في صناعة الكُؤوس، الكأس هنا ما سيجعلُ الماء خاصاً بطريقة أو بأخرى، إذ لا يريدُ الكثيرون معرفة أنّ تجربتهم الخاصة كثيرا، حدثت قبلاً مع غيرهم، وأنّها وقعت لغرباء وشاركُوهم الآن في الحديث عنها. ولأجل هذا الامتلاك يسارعُ البعض إلى تبنّي ما حدث معه على أنّه مجد فرديّ، يمكنه أن يسجّله باسمه مدى الحياة، وكلّ ما سنفهمُه وقتها هو ذلك النداء الذي يحثنا قائلاً: ابتلعوا أنينكم، ابتلعوا ألمكم، ابتلعوا حكاياتكم... إنّه نوعٌ آخر من الدكتاتوريّة الأدبيّة، أن تكون ملزماً بالصّمت ما دام ثمّة من جلس على كرسي الحكاية، هذا الاستلاء الناعم للمعنى شبيهٌ بوضع البندقيّة خلف رأسك، بينما كنت تُجيب على هاتفك، لا يختلفُ وقوف متسلّط على حياتك ووقوف آخر على حياة كلماتك، النّعومة العاجز أنتَ عن الشّعور بنعُومتها بقدر ما توحي لك بالاشمئزاز، تريدُ أن تتقيأ كلّ تلك اللّمسات دُفعة واحدة من أطراف شعرك، ومسامات جلد لغتك، والتّخلص من ارتجاف أصابعك للأبد في اللَفظ والمعنى.
يقول محمود درويش في إحدى قصائده: "لا تصدّق خلاصتنا وابتدئ من كلامك أنت، كأنّك أوّل ما يكتب". تمنحُ هذه الجملة أحقيّة الإنسان في الحكاية، حكاية تجربته الخاصّة إذا ما كان يُريد فعلاً نقلها للألفاظ وعدم اكتفائه بالإصغاء لأولئك الذّين يكتبون عنه حكايته من خلال حكايتهم الخاصّة، فما يصلُ إليه الآخر ليس بالضّرورة ما ستصل إليه أنتَ، ما وصل إليه عبر المعنى والألفاظ هو وصُوله لا وصُولك. لكن ماذا عن الطّريق التّي ستسلكها المعاني والألفاظ؟ فنحن نتحدّث عن الوُصول لا السّير، وهذا يعني أنّنا سنُكرّر السّير مهما تفرّقنا عند الوصُول، وما يقرّب بين المعنى داخل اللّفظ والآخر هو التّكرار، يجد الإنسان معناه في جمل الآخرين، قد لا يكُون جسد المعنى محمولاً بألفاظ سبق له واستخدمها، لكن ذلك (كما سيبدو لنا بداية) لن يغيّر من جسد المعنى شيئا، فالألفاظ مثل الملابس تأخذُ غالباً مقاس الجسد، إنها تُحاكيه، لكنّها ويا للمفاجأة لا تكون عليه تماماً، لا تكون بدقته تماماً، وفي ذلك الاختلاف الطفيف من حيث الدّقة نفهم أنّ ما يربطنا هو "اختلافنا الطّفيف ذلك" لا ما "نتشابه فيه".
وللعيش داخل ذلك الحيّز المُشوّق، وتلك الجاذبيّة، حاول الكثيرون اختراع مساحة تُحاكي تلك المساحة، بأن جاءت فكرة الاحتجاز، احتجاز المعنى بألفاظه، أو حجز المعنى والألفاظ كأنّها غرفٌ في فندق دفعوا كلّ الأيام القادمة فيها لهم، ومزّقوا سجلّ النزلاء القدامى، حيث لا يُصبح لك قصّتك التّي لربّما تشتركُ معهم فيها، وعليك أن تبتلعها فقط لأنّهم سبقوك في الحديث عنها ما دام تحدّثوا عنها لا حقيقة أنهم "الأوّل" فعلاً، فالتنازلُ هنا هو نوعٌ من صناعة ذلك التّرابط، النّاس تريد أن تكون بطلة حياتها، حتّى لو كانت تلك الحياة مجرّد تكرار بشع لحيوات مرّت، وأبطال فشلوا في العيش داخل الاختلافات الطفيفة للمعنى والألفاظ.
ما يصلُ إليه الآخر ليس بالضّرورة ما ستصل إليه أنتَ، ما وصل إليه عبر المعنى والألفاظ هو وصُوله لا وصُولك
لقد سرق الآخر قصّتي، لقد سرق الآخر بطُولتي، لقد سرق لفظي ومعناي، لقد سرق ذاتيّتي، إنّ ما يفعلُه هؤلاء حينما يعتقدُون أنّه بمجرّد كتابتهم لتلك التّجربة يستولون حتّى على من عاشوها قبلهم أو معهم، أو بعدهم، يُضيفُون على الجمل أيادي على رقبتها، إنّها مخنوقة مجازاً، وميّتة قبل أن تُقال، ومتّهمة بعدم براءتها قبل أن ترتكب أيّ جريمة، فهل تبدو الكتابة انطلاقاً من واقعكَ كعمليّة سطو على واقع الآخرين المُشترك معك أم أنّها عملية إيصال لتلك الأصوات المكتُومة بأن ترفع لها صداها؟ وإذا كان ثمّة كتّاب كثر في نفس المدينة (المدينة بمفهوُم الشّراكة في التّجربة)، فهل يحق لمن جلب حادثاً مشتركاً إلى أعماله أن تكون له براءة اختراع؟
ما يجعلك تكتبُ معانيك المُنطلقة من التّجربة الخاصة، سواء على المُستوى المُحيط بك أيّ الآخرين أم تجربتك الخّاصة مع الذّات، ولسبب ما تجهله، يتمّ استحضار الفكرة عينها من طرف شخص آخر ووضعها أمامك كعمليّة دفاعيّة عن الكاتب الذّي تناول فكرتك وعنك الذّي تناولت فكرته وكأنما يدين فكرتك ومن ثمّ يدين كذلك تقاطع حياتك مع حياة كاتب سبقَك إلى هذه الفكرة. وفي هذه العلاقة المُريبة تجد نفسك غالباً مستعداً للتّنازل عن فكرتك، فقط لأنّ شخصيّة ما في هذا العالم سبقتك إليها وحجزتها للأبد تحت مسمّاها، وقد تكون هذه الفكرة كتبت منذُ عقُود ولم يمرّ عليك في كلّ مراحلك اسم العمل ولم تطّلع عليه، وربما لم تعرف مطلقاً أنّه ثمّة كاتب يحمل ذلك الاسم، والأمر الوحيد الذّي ستعلمه لو أنّك رضخت لمفهُوم اللغة الفندقية والمعاني المحجوزة سلفاً أنّه انطلاقًا من هذا لم يبق لك ما تقوله، فالذّين كتبوا عن الأشياء قد أخذوا منك لغتك وتجاربك المتفرّقة على شخصيات كثيرة سبقتك وسيكوُن من الجيّد لو أنّ الكتابة أعلنت عن غلق الصّفحات البيضاء، وأنّ ما يُقال قد قيل، ويعتقدُ الكثير من الكتاب أنّ أحزانهم هي الأحزان الوحيدة المُهمة وأنّ تجاربهم الشخصيّة لا يمكنها أن تتكرر في الآخرين حتّى لو كان هؤلاء الآخرون يشتركُون معهم في التجارب العامّة. الأمر ينطبق كذلك على الأشخاص العاديين فالكاتب هو إنسان في الأخير، والغريبُ هنا هو مقدرة هذا الأخير على جلب تلك العادات للغة والمعاني، فانطلاقاً من هكذا اعتقاد يمنحُ لنفسه مكانة الحُكم على الآخرين بالجريمة واللّصوصيّة حتى لو كان الآخرون بعيدين عنه مئات الكيلومترات، إنّه يتحوّل إلى إقطاعيّ جديد يتملكُ، ليس فقط المعنى واللفظ، بل حتّى حياة الآخرين الشّخصية عن طريق تنصيب أدواته على أنّها دفاعيّة لكنها هجوميّة في أصلها. هذه التصرفات تخلقُ فيه ما أسميه "اللغة الفندقيّة وغرف المعاني المحجوزة سلفاً"، فهذا المعنى الذّي عاشه ثم نقله إلى اللّغة ليحكي لنا ذلك، أصبح تحت تصرّفه للأبد وكلّ الذّين سيأخذُون ذلك هم عبارة عن لصُوص دخلوا تلك الغُرف وناموا فوق أسرّة لأشخاص حجزوها وانتقلوا إلى غُرف أخرى من المعاني ليفعلوا الأمر نفسه، عمليّة تشبه تماما السطو المسّلح، ولا يجد الكاتب الآخر نفسه سوى أنّه متهم لأنّه يريدُ أن يكون "كاتبا" في الأخير.