موتٌ معلنٌ داخل طفولة الكون
"هاي إمّي، بعرفها من شعرها" . .
تعتبرُ وفاة الأطفال الصّغار من أقوى الأمثلة على الحُجة الفلسفية المعروفة بـ"حجّة الشّر" التّي أدّت إلى إلحاد الكثيرين، ففي كتاب "داروين والله" وضّح الكاتب، نِك سبينسر، السبب الحقيقي لتحوّل داروين من الإيمان إلى اللاأدرية، وفاة ابنتهُ "آني"، الذّي زعزع إيمانه، أي حجّة الشرّ، وقد تساءل داروين إثر وفاتها عن السبب الذّي يدفعُ الإله الرحيم لحرمان طفلةٍ صغيرة من مباهج الدّنيا. وفي المُقابل، قاد موت ابنة، فيودور دستويفسكي "سونيا" في عامها الأوّل، وأيضاً "ألكسي" في عامه الثّالث إلى تقبّل المأساة بقلبِ أقرب لليقين من الشّك، لكن ماذا عن تعمّد قتل الأطفال وإسالة دماء البراءة؟ هل ماتت طُفولة الكون مع أوّل طفل مات عمداً، أم أنّها ماتت مع فكرة أنّ الموت لا يستثني الأطفال؟ يقول فيودور دوستويفسكي: تشفى الروح من خلال التواجد مع الأطفال، لكن ما الذّي سيحدث لها بعد تعمّد قتلهم؟ هل تمرض فعلاً؟
لقد أشار العالم إلى فترة حياة الإنسان الأولى من عمره بـ "الطّفولة"، هذه الكلمة "enfant "مُشتقّة من اللاتينية « infans أو " non for " بمعنى "غير المُتحدّث والذّي لا يتكلّم يأتي من الفعل اليوناني" phémi " أي الذّي لا يعرفُ كيف يعبّر عن فكرتهِ، إذا كانت كلمة طفل تدلّ في قاموس جودفروي (اللّغة الفرنسيّة من القرنِ الخامس عشر) على "شاب نبيل لم يُصبح فارساً بعد، فإنّ الطّفل هو: الذّي لا يعرفُ التّكلم بعد"، لذلك الطّفل لا يملك الكلمة، هو مُستقبَل الكلمات وحين "يفكّر" و"يعبّر" عندها سيكون له معنى، ما يعني أن مُحاولة إسكات طفُولة أينما كانت في أطراف العالم، طفُولة لا تتكلّم بعد، ما هو إلا إصدار آخر على موتِ الكلام، موت التّفكير، وموت جزء من المُستقبل، النّقص الذّي ظلّ العالم يُعانيه نتيجة خسارة الكثير من الأطفال داخل الحُروب بكلّ أشكالها، خسارة المَعنى الذّي لم يُسمح لهُ بالعيشِ، والتّفكير الذّي قُبر في مهدهِ، فحتّى مُشاركة العالم في جريمة قتل الأطفال من خِلال المُشاهدة يجعلهم يفكرّون بذات الطّريقة، أنّ جزء من الكلام والتّفكير قد مات في مظهرهِ المُختلف والمُنتظر، شيءُ من الدّهشة قد مات، وجزءٌ كبير من الفرحِ، سيكُون للمعنى وزنا واحداً، واتجاها واحدً، أو سينقُص المعنى وزناً واحداً، واتجاهاً واحداً، عندها تتحوّل كلّ الحماية التّي صاغها الوجُود إلى رماد تذروه مؤسساته وهيئاته بشعاراتها، وسيكُون هنالك أيضاً المزيد من القتل في المناطق التّي تخضعُ للتّضامن الانتقائي، سيسُود مفهوُم الاستباحة، ولن تكُون هنالك إرادة جادّة في استعادة العلاقة الجوهريّة بالطّبيعة، ممّا يُسبّب فُقدان تام لتواصل الذّات مع طبيعتها الخاصّة، فالعالم الذّي يقتل الطّفل يخطفُ منه حريّته وكلامه وتفكيره، يسرقُ منه "المقدرة" بتقديم كراهيته لتلك الطّفولة كجرائم تجاههم، الكبار يلعبُون بالطّفولة التّي لم يحصلوا عليها، إنّهم ينشئون أشباههم في الكرهِ والاعتداءِ، أجيال مشوّهة تحطّمت فيها معاني الحبّ والرأفة، وأصبح الانتقام مستقبلٌ، وبدل أن نوفّر لهم (أي الأطفال) اللّعب الذّي يستحقوّنه، حولناهم إلى اللّعبة التّي نستحقها ونسحقُها، عيّنات شبيهة ب "ماوكلي" الذّي تربّى وسط الذّئاب، فأصبحت حركتهُ مثلهم، بأن يمشي على قوائمه الأٍربعة، أو كما حدث في قصّة "طرزان" الذّي ربي مع الغوريلا، فأصبح مثلها يضربُ على صدره، أم "حي بن يقظان"، حيث الطّبيعة تولّت تربيته داخل عالم لا تُوجد فيه الأم عند نشوئه، فمن ينقذ الطّفولة من أطفال الأمس المشوّهين؟
ما يأخذه كلّ طفل يمُوت هو أكثر من جسد، وأكثر من عاطفة، ما يأخذه هو براءةُ الكون
يصرخُ فيودور دوستويفسكي في روايته الفُقراء: يا إلهي لماذا يمُوت الأطفال؟ لماذا لا ترفعُهم إلى السّماء مؤقتًا ريثما تنتهي الحرب، ثمّ تُعيدهم إلى بيوتهم آمنين؟ وحين يسألهم الأهل مُحتارين: "أين كُنتم؟" يقولون مرحين "كنّا نلعب مع الغيوم!". يتضمّن هذا النّداء معاناة الكِبار في كلّ مكان من الموت المجانيّ للأطفال، إنّهم يُشكّلون الطّرف الأبيض للوجود الذّي يستصعبُ خدشه والتّنكيل به عبر تلك الأوساخ التّي نقذفها نحوه. فمشاهدة تلك الأجساد الصّغيرة والضّعيفة تتعرّض للمأساة تجعلُنا نخسرُ أجزاء من بياضنا، أجزاء من نصاعة ما ندهنهُ عن مصطلح الإنسانّية، نحن الكِبار نملكُ أطفالاً يركضُون في حياتنا لهذا موت أصدقائهم هو موت لهم، موت الطّفولة مبكرًا سواء عن طريق قتل أجسادها أو قتل نظرتها تِجاه الكبار يجعلهم ينكمشون ويختفُون في ظلام قِشرتنا، لقد أُعدمت طفُولة الكون مذ بدأ الإنسان في التّعوّد، أمّا نحن الذّين عذبتنا مشاهد تعرّضهم للقسوة، فقد هيّج موتهم البشاعة، والكره الذي بدأنا نفهم أهمية توازنه لمواجهة عنف التّاريخ الذّي انفلت مجدّدا في الأرجاء، عُذّبنا وكنّا نستحق ذلك الأرق وعدم الارتياح، فمِن "كان يصرخ ُعلي يا كمال يا كمال" إلى "الولاد ماتو بدون ما ياكلوا يشهد عليا الله" فقدنا رغبتنا في النّوم، ومِن "قوم ارضع حبيبي . . قوم" إلى "بدي شعرة منه شعرة واحدة بس قبل ما تدفنوه" حملنا أشلاء كلّ من ما زالوا تحت الأنقاض على أكتاف ترقّبنا للأبد، لقد شوهتنا جملةُ: "اسمه يوسف 7 سنين شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"، وقسمتنا إلى نصفين أمنية "ياريتني أنا أروح عند أبوي كمان"، سحلتنا نداءات "وينكم يا عرب" وعشنا رعبنا "بيكفي يا عالم بيكفي"، لقد أصابنا ارتعاشٌ مزمن في عواطفنا وقت شاهدناهم يعوُدون من تحت الرّكام بأطراف تهتز، من أين لنا أن ننسى "كنت نايم" وكثير من المشاهد التّي غرسها هؤلاء الأطفال المفقُودين داخل الزّمن المتوحش، والجغرافيا المُلغمة، والتّاريخ المليء بالكذب عن أبطال صنعتهُم الحروب لا السلم، صنعتُهم القسوة لا الحنان، انحدر هذا المفهوم من قدماء اليونان فأعلوا من شأن البطل القادم من القتِال، الذّي غلب الإنس وحتّى الأسود وأخذ منهم أرضهم، المُحارب الذي تبنته المرويات الشعّرية وحكت عنه الملاحم الكبرى، البطل هو من قتل أكثر في مكان ما، هكذا اكتسبت الحرب طابعاً بطولياً تمنح أصحابها المجد لا العار، هكذا خلدّ الكثير من القتلة كشجعان وترسخوا داخل الذاكرة الجماعية وفي قلب أشعار هوميروس.
فهل يموتُ الأطفال لأنّهم أطفال فقط؟
ما يحركُ فينا وقت مقتل أيّ طفل هو رعبُ انتهاء البداية قبل سيرها إلى نهايتها، إنّه لا يمُوت فقط كطفل، بل كمفهُوم أخلاقيّ، عدم مقدرتهم المُضاعفة على الدّفاع عن أنفسهم، لا بأجسادهم، ولا بعقُولهم، إنهّم الخُطوة الأولى البريئة في حياة شرسة مليئة بالضّغائن، المكان الذّي يستريحُ فيه الإنسان من كِبره، هو موت الرّاحة نفسها، أن تمُوت البراءة في مشهد واقعيّ يسلبُ منّا رغبتنا في البقاء داخل مدنٍ بلا حدائق ومراجيح، بلاد منزوع منها المُستقبل، ما يُفرغه كلّ طفل يموت هو أكثر من مدينة، وأكثر من غُرفة، ما يفرغه هو المَعنى، ما يأخذه كلّ طفل يمُوت هو أكثر من جسد، وأكثر من عاطفة، ما يأخذه هو براءةُ الكون.