لا تكرّروا صبرا وشاتيلا
يوافق هذا الأسبوع ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بالتعاون مع حلفائه من المليشيات المحليّة في ثمانينياتِ القرن الماضي، وقد أتاح لي عملي زيارة مخيّم شاتيلا خلال السنوات الماضيّة مرات عدّة، فعكفت على تذكّر المأساة والتذكير بها كلّ عامٍ تقريبًا. ولكن في هذه الأيّام تحديدًا، يبدو أنّ ثقل تذكّر الفظائع الماضيّة، مع ما نشهده في بثٍّ حيٍّ ومباشر من أهوال وفظائع جديدة في غزّة والسودان.. يزيدُ من شعوري بالعجز واللاجدوى، وأحيانًا عبثيّة كلّ ما أقوم به. فبالنسبة للعديد من الذين يحيون ذكرى المآسي الماضية، مثل المذابح في لبنان خلال الثمانينيات، تتضارب المشاعر والأولويات بين ضرورةِ تكريم ذكرى الضحايا وعدم نسيانهم وقتلهم مرّة أخرى، وبين إلحاحِ مواجهةِ الواقع الحالي الذي لا مفرّ منه، والمتمثّل في الفظائع المستمرّة، كتلك التي تُرتكب الآن في فلسطين ولبنان والسودان. ويثيرُ هذا الصراع أسئلة بالغة الأهمية: ما قيمة التذكّر إذا فشلنا في منع تكرارِ التاريخ؟ وكيف نُوازن بين الذاكرة وضرورة العمل في اللحظة الحالية؟
لطالما حاولتُ إقناع نفسي بأنّ الذاكرة الحيّة تعمل كإحدى أدوات الوقاية من تكرار أخطاء وخطايا الماضي، وطريقة لمنع الفظائع المستقبليّة. فمن خلال حفاظي على ذكرى أولئك الذين عانوا وتكريم ذكراهم، فإنّني أذكّر نفسي والآخرين بعواقب الظلم والعنف والكراهيّة التي ينشرها الاحتلال وأعوانه وشراذمه في كامل منطقتنا. ولكن في النهاية، فإنّ أفضل طريقة يمكننا من خلالها تذكّر الماضي وتكريم الضحايا هي أن نفعل ما بوسعنا لعدم تكرار الجرائم، وهو ما فشلنا بشكلٍ فظيع في تحقيقه، فها هي مذابح صبرا وشاتيلا تتكرّر أمام أعيننا ولكن مُضاعفة آلاف المرّات.
إنّ تذكّر أهوال لبنان وما سبقها من مجازر دير ياسين، والطنطورة، وكفرقاسم، وخانيونس، وأبو زعبل وبحر البقر، وتلاها من مذابح الأقصى والحرم الإبراهيمي وقانا، إذ أودت جرائم الاحتلال وأذنابه بحياة الآلاف، ليس مجرّد ممارسة في الحنين إلى الماضي، بل يجب أن يكون جزءًا أساسيًا من جهدٍ مشترك وعام لضمانِ عدم نسيان مثل هذه الفظائع وضياع ذكرى الضحايا في غياهب النسيان. وهذا ينطبق على الفظائع في كلِّ مكانٍ، وليس فقط في عالمنا العربي.
كيف يمكننا أن نحزن على الماضي عندما نفشل في وقف الأهوال الحاليّة؟ ما هي فائدة الذاكرة الحيّة إذا لم تؤدي إلى العمل؟
إنّني مدرك تمامًا أنّ عبء الذاكرة يتضخم بشكلٍ أُسي بسبب التدفق اللانهائي من الفظائع اليوميّة التي تتطلّب الاهتمام والعمل الفوري من قبل الجميع. وفي سياق الإبادة الجماعية الحاليّة في فلسطين والسودان، قد يشعر الكثيرون بالشلل والعجز بسبب السؤال الذي نُعيد تكراره مرّة أخرى، كيف يمكننا أن نحزن على الماضي عندما نفشل في وقف الأهوال الحاليّة؟ ما هي فائدة الذاكرة الحيّة إذا لم تؤد إلى العمل؟ وهذا هو أساس المعضلة وفيه يكمن جوابها.
إنّ التذكّر دون عمل هو ما يزيد من شعورنا بالفراغ والعجز، وكأنّ دروس الماضي لم يتم الاستفادة منها. فالمفتاح يكمن في تحقيق التوازن بين إحياء الذكرى والعمل. لنحيي ذكرى من رحلوا ونستمر في الحديث والنشر والكتابة والتبرّع والتطوّع والتظاهر والمُدافعة وحشد التأييد والمقاطعة، وأيّ فعلٍ مُقاوم بإمكاننا القيام به ومن شأنه الضغط على المُعتدي وأذنابه لإيقاف المجازر، والتفكير مستقبلًا ألف مرّة قبل تكرارها. فلا ينبغي أن تكون الذكرى وتكريم الضحايا تمرينًا سلبيًا يعزّز الشعور باللاجدوى؛ بل يجب أن يصبح دافعًا يغذّي التزامنا بمنع الفظائع المشابهة اليوم وغدًا، في فلسطين، وفي كلّ مكانٍ على هذه الأرض.
خلال الساعات الماضيّة بدأ العدو الصهيوني الأميركي بالترويج لخطة "الخروج الآمن"، وهو عرض مشبوه آخر شهدنا مثيله قبل أكثر من أربعة عقود، وتُوّج بمذبحة صبرا وشاتيلا وغيرها، والمفارقة أنّ العروض القذرة تبدأ بذكر مذابح الماضي تمهيدًا للمزيد من الفظائع. ممّا يجبرنا على حفظ الذاكرة وإحياء الذكرى والعمل بشكلٍ متوازي من أجل إيقاف مسلسل المجازر. صحيح، قد يبدو عبء الفظائع الماضيّة والحاليّة ساحقًا، وهو كذلك حقًا، ولكن لا يمكننا القبول بتكرار صبرا وشاتيلا، ولا يمكننا القبول باستمرار الإبادة الجماعيّة في غزّة، ولا يمكننا أن نصبح شركاء في الجريمة بصمتنا وقبولنا بالأمر الواقع. فنحن لم نعدْ قادرين على تحمّل كُلف رفاهيّة النسيان أو التراخي، وعلينا العمل على تكريم ضحايا الماضي، واليوم، بالعمل الجاد من أجل حماية من تبقوا ومنع تكرار الجريمة.
فلا تكرّروا صبرا وشاتيلا.