ماذا تبقى بعد حصار جباليا؟
جباليا تُحاصَر وتُقصَف، والعائلات ترى أبناءها شهداء في الشوارع على بعد بضعة أمتارٍ، فيما أشباح الموت القادم على ذخائر ورصاص المعتدي تحلّق فوق الجثامين، دون أن يستطيع أحد الاقتراب من أجل لملمة ما تبقى من الأشلاء ودفن الأحبّة. لا أحد يعلم عدد الشهداء والمصابين، لا أحد يستطيع متابعة إحصاء نتائج جرائم الاحتلال الصهيوني الغربي، التي تبدو بلا نهاية.
المحاصرون بلا طعام ولا ماء، وهناك رعبٌ من بدء انتشار أخبار شهداء العطش والجوع، والعالم يشاهد بلا مبالاة. وأحيانًا نشعر بأنّنا عدنا ألفي سنة إلى الوراء، وهذا العالم القبيح عاد ليستمتع بلون الدم ورائحته، كما استمتع برابرة الرومان بقتل المجالدين في الكوليسيوم، ولكنّهم اليوم يستمتعون بقتل أطفال فلسطين ولبنان.
بعد أكثر من عام من الإبادة، وبعد اتساع نطاق المجازر لتشملَ لبنان، هل تبقّى شيء من المنطق في كلّ ما يجري؟ كيف لعقولنا العاجزة معالجة كلّ هذه الكوابيس التي بتنا عاجزين عن الاستيقاظ والهروب منها؟ كيف لقدراتنا القاصرة نجدة من تبقّى من الضحايا؟ كيف لنا أن نكفّر عن خطايا تخاذلنا؟ وكيف للضحايا المقاومين الصمود أكثر في مثل هذه الظروف المستحيلة؟
حُوصروا، وجُوّعوا، وجُرّدوا من جميع أدواتهم، وتكالبت عليهم أراذل الأمم وقصفتهم بكلِّ ما لديها، فماذا تبقى بعد؟ لماذا نستمرّ في الصراخ من خارج ميدان المعركة، مطالبين بالعدالة ورافضين تقبّل هزيمة المُعتَدى عليه؟
لم يترك العدو أمام الضحايا وأحرار العالم سوى خيار المواجهة حتى النهاية، في كلِّ مدينةٍ وقريةٍ على هذه الأرض
في مثل هذه الظروف التي تبدو بلا بصيص أمل، قد يكون الحل الأخير هو الصمود حتى النهاية على جميع الجبهات، القتال بما توافر من أدواتٍ، وفي كلِّ الميادين حول العالم حتى اللحظة الأخيرة للضغط على البرابرة، علّ وعسى أن ننقذ من تبقّى من الناجين. فلم يترك العدو أمام الضحايا وأحرار العالم سوى خيار المواجهة حتى النهاية، في كلِّ مدينةٍ وقريةٍ على هذه الأرض، ليس لأنّنا نتوقع النصر المادي، ولا لأنّ أحداً يرغب بخسارة قطرة دم أخرى من دماء الضحايا، أو إطالة عذاباتهم، بل لأنّ النفس الإنسانية بطبيعتها ترفض الاستسلام للطغيان والظلم، وتتمسّك بالكرامة حتى في أسوأ لحظاتِ المعاناة، لتحرمَ شراذم البرابرة قتلَ الضحايا معنويًا قبل قتلهم جسديًا. قد يحرم العالم القذر الغزيين كلَّ شيء، لكن أحدًا لن يستطيع انتزاع إرادتهم الحرّة وعقيدتهم وإيمانهم، ولذلك تُحاصر جباليا للمرّة الثالثة على مدار أكثر من عام دون أن يحقّق المعتدي مبتغاه.
إنّ أيَّ تعمّقٍ في النفس الإنسانية يُظهر توقها إلى الحرية، وقد أشار الفيلسوف جان بول سارتر إلى أنّ الإنسان محكوم عليه بالحرية، وعليه يصبح وجوده في حدِّ ذاته فعلًا وليس حالة، فعل يسعى لتحقيق حرّيته في هذا العالم بمجرّد وجوده فيه، خالقًا من أفعاله صيرورة يتحوّل فيها عند كلِّ مواجهةٍ، رافضًا الواقع المفروض ومطالبًا بمستقبلٍ منشود، وضاربًا بحساباتِ الربح والخسارة عرض الحائط، فلا معنى لوجوده دون حرّيته وكرامته الإنسانية.
وعلى الرغم من أنّ عبثيّة الوجود عند ألبير كامو قد تكون الطريقة الأبسط لتقبّل كلّ ما يجري حولنا والتعايش معه، إلا أنّ النضال ضدّ هذا العبث الجائر، والاستمرار في مقاومته هو ما يعطي معنى للحياة، حيوات الضحايا وحياة أيّ حرٍّ على هذا الكوكب ذات معنى، ولا يمكننا التخلّي عن معناها بالاستسلام لهذه العبثية، بل يجب علينا المقاومة والثقة بأنّ نصر الله آتٍ لا محالة.
النضال ضدّ الاحتلال واجب لا ينتهي، حتى لو كان في ظروف يبدو فيها النصر شبه مستحيل
وعلى الجانب الآخر من المتوسّط إن جاز القول، رأى عبد الرحمن الكواكبي أنّ المستبد يسعى دائمًا لإضعاف الشعب وإذلاله وتجريده من قدرته على المقاومة. وعليه، لا بدّ من مقاومة المستبد في واجبٍ ديني وأخلاقي. وعلى الرغم من إدراكنا أنّ المستبد قد يكون مدجّجًا بالسلاح والأدوات والحلفاء والأذناب، فإنّ المقاومة يجب أن تستمر، ولو على مستوى الأفكار والوعي. فالنصر قد لا يكون سريعًا أو ماديًا، لكن بالتأكيد تكون المقاومة الفكرية بداية تحرّر الشعوب من استبداد الطغاة، وفي غزّة انتقل المقاومون أصلًا إلى مراحل أكثر تقدّمًا، تاركين معارك الوعي والتواصل على أهميتها لنا، على أمل ألّا نخذلهم في هذه أيضًا.
في النهاية، فكرة الهزيمة لم ولن تكون خيارًا نهائيًا أمام الطغيان، فالنضال ضدّ الاحتلال واجب لا ينتهي، حتى لو كان في ظروفٍ يبدو فيها النصر مستحيلًا. وللأسف، فإنّه على الرغم من فداحة الخسائر التي لا تُحتمل في فلسطين ولبنان، فإنّ التضحية جزء لا يتجزّأ من هذا النضال، وإنّ الصمود أمام الظلم شكل من أشكال استعادة كرامة الإنسان. لا أظن أنّ العالم شهد سابقًا في بثٍّ حيٍّ ومباشر، موقفًا أكثر رعبًا وترويعًا ولا إنسانيّة من موقفنا اليوم تجاه غزّة. ولكن، ومع ذلك، يبقى تاريخ البشرية مليء بأمثلة لأشخاص وجماعات واجهوا ظروفًا مشابهة واستطاعوا، بطريقة ما، أن يجعلوا من مأساتهم نقطةً لثورةٍ على الظلم، واليوم آمل أن تكون نقطة انطلاق للنصر والحرية ووقف شلالات الدم.
فلا تتوقف عن الكتابة والتصوير والنشر والتبرّع والتطوّع والتظاهر والمقاطعة والمقاومة بأيِّ شكلٍ كان، وفي أيِّ موقعٍ، وثق بأنّ نصر الله قريب.