العدالة الانتقائية ومسؤولية الصمت والتواطؤ في مواجهة الإبادة
لقد أزاحت المأساة المستمرّة في قطاع غزّة الستار عن كثيرٍ من المشاكل الأخلاقية الهيكلية في ما يسمّى قطاع التنمية الدولية والعمل الإنساني، القطاع الذي اعتَبرت نفسي جزءاً منه لسنواتٍ طويلة، والقطاع الذي لطالما آمنت بأنّ كثيراً من المنظمات الدولية العاملة فيه تحمل على أكتافها مسؤولية الدفاع عن العدالة، وتُشهر سيف حماية كرامة الإنسان بلا تمييز في وجه أيّ مستبدٍ، والقليل منها قد فعل وما زال. إلا أنّ الأزمات الإنسانية المُتلاحقة على مرِّ السنوات الماضية كانت تعود كلّ مرّةٍ لتثبت العكس بالنسبة إلى أغلبية هذه المنظمات، ولو بنسبٍ متفاوتة، وتُظهر أنّ كلمات جورج أورويل في روايته "مزرعة الحيوان"، تعبّر بصدقٍ عن بروتوكولاتها إلا من رحم ربّي، "كل الحيوانات متساوية، ولكن بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها." ومع ذلك كنت أُمنّي النفس بالتغيير وأتحلّى ببقيةٍ من أمل أنّ هذا العالم ما زال يحمل بعض الطيبة والإنسانيّة بين ثناياه.
ولكن المأساة الأخيرة في غزّة بدّدت الكثير من هذه الأوهام حول كثير من هذه المنظّمات وقادتها. فما نشهده إبادة جماعية مستمرّة منذ أكثر من عام تنفذها قوات الاحتلال الصهيوني، بدعمٍ كامل من القوى العالمية. حاصروا وقصفوا وجوّعوا، ودمّروا المستشفيات والمدارس والمنازل، قتلوا فيها أكثر من 42,000 فلسطيني حتى يومنا هذا، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، وجرحوا أكثر من 100 ألف، وهُجِّر أكثر من مليوني شخص من سكان غزّة، هم فعلًا جميع تعداد سكان القطاع، وهذه ليست مجرّد أرقام وإحصائيات بل أرواح وأجيال سُلِبَت ماضيها وحاضرها ومستقبلها. رغم ذلك، نجد أنّ معظم هذا المجتمع الدولي على مستوى القيادة على الأقل، وحتى هذه اللحظة، عاجز عن الاعتراف بحجم هذه الكارثة، وتسمية الأشياء بمسمياتها، والإشارة بوضوحٍ إلى المجرم والتوقّف عن مساواة الضحية بالمعتدي.
هذا الصمت يكشف عن عدالةٍ انتقائية تحكم استجابات معظم المجتمع الإنساني الدولي. فعندما لا يكون الضحايا جزءاً من مجموعةٍ ديمغرافية تستدعي التعاطف الدولي الفوري، تختفي العدالة الأخلاقية وجميع القيم، ويكشف معظم المجتمع الإنساني الدولي عن وجهه القبيح وأنيابه التي تقطر منها دماء الضحايا، مثله مثل المعتدي بالضبط. الحقيقة القاسية هنا أنّ من لا يتمتّع بامتيازات العرق الأبيض الغربي، أو بخصائص تتوافق مع روايات القوى الكبرى، يُترك غالباً لمواجهة مصيره بنفسه. وهنا وعلى مدار أكثر من 76 سنة، هُمِّش الشعب الفلسطيني ضمن نظام يتشدّق بحقوق الإنسان، ولكنه يطبّقها بانتقائيّةٍ بشعة.
من لا يتمتّع بامتيازات العرق الأبيض الغربي، أو بخصائص تتوافق مع روايات القوى الكبرى، يُترك غالباً لمواجهة مصيره بنفسه
الأكثر إثارة للقلق، تواطؤ كثير من المنظّمات الإنسانية الدولية (إلا من رحم ربي مرةً أخرى) التي تتدثّر بلغةِ حقوق الإنسان والسلام والعدالة، بينما في الخفاء تشارك في صناعةٍ مربحة تستفيد من الأزمات. فكثير من هذه المنظمات يزدهر في ظلّ الأزمات ويقتات على أوجاع المهمّشين، منظمات تستقطب الموارد والمنح وتحافظ على وجودها، بينما تتجنّب المساءلة الحقيقية. لقد فشلت كثير من هذه المنظمات، وأفرادها، في تحقيق المبادئ التي تدّعي الدفاع عنها، بل إنّها في بعض الأحيان اصطفت مع الهياكل السلطوية التي تعزّز الظلم بدلاً من مواجهتها.
وبالرغم من سوداوية المشهد، ما زال هنالك بعض الأمل، وبالتأكيد هنالك بعض المنظّمات التي ما زالت تلتزم بإطارها الأخلاقي وتنتصر للحق، وأعرف شخصيًا الكثير من العاملين في هذا القطاع الذين بذلوا جهودًا وقدّموا تضحيات لا يمكن المزايدة عليها، ولكن بالنسبة إلى بقيّة المنظمات الدولية المرتزقة والقائمين عليها، فإنّ العالم يراقب أكثر من أيّ وقتٍ مضى، والناس باتت تلاحظ وتنتبه لمن يصطف على الجانب الصحيح من التاريخ، ومن يستمر في الاختباء وراء الخطابات الجوفاء. خطابات أولئك الذين جلسوا صامتين أو حتى بلغوا دركًا أدنى، ودعموا هذه الإبادة الجماعية في غزّة ولو بشق تمرة، فنحن نتعلّم من الدروس المستفادة مهما كانت مكلفةً ومؤلمة. وقد حان الوقت لمواجهةِ كثيرٍ من هذه المنظّمات، والمطالبة بمساءلتها، وتفكيك هذا النظام القائم على العدالة الانتقائية. فمستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة قد يعتمد على ذلك، ولن يكون التاريخ رحيماً مع من وقف مكتوف الأيدي بينما العالم يحترق. هذا هو النداء الذي يجب أن نوجّهه لجميع العاملين في هذا القطاع. النقد وحده لا يكفي؛ يجب علينا محاسبة المنظمات المارقة في هذا المجتمع الدولي الإنساني، والمطالبة بالشفافية، والتشكيك في دوافعها ودوافع القائمين عليها. يجب ألا نسمح لهم بالاستمرار في الادّعاء بأنّهم حرّاس الإنسانيّة، وأنّهم يمثلون سلطة أخلاقية غير قابلة للطعن، في الوقت الذي يساهم فيه صمت الكثيرين منهم وتقاعسهم في تمكين الظلم الذي كان من المفترض أن يكافحوه.