كويلو المبالغ في تقديره
شعرت برغبة جارفة بالابتعاد عن الأخبار قليلا، وعلى الرغم من أن مزاجي كما المزاج العام غارق في الحرب وتداعياتها، إلا أنني وددت الهروب ولو لبضع ساعات لخاطرة راودتني قبل سنين. قد لا يكون من السهل على عشاق الكاتب باولو كويلو تقبل ما سأكتبه اليوم، لكني أجد نفسي مضطرا لمشاركة رأيي غير الشعبي حول أعماله، مستشهدا بتجربتي مع روايته الشهيرة "الخيميائي".
بدأت تجربتي مع هذا الكتاب قبل سنوات طويلة عندما حصلت على نسخة منه بناء على توصيات متكررة من الأصدقاء، حيث دفعني الفضول لمحاولة قراءته، لكن سرعان ما وجدت نفسي متثاقلا أمام نصوصه، إلى أن شعرت برغبة في التوقف عن القراءة فور إكمالي عشرين صفحة فقط.
ومع مرور الوقت، لم أفكر في العودة إلى الكتاب مجددا حتى شاهدت ابني قبل سنوات، وكان حينها ذا أربعة عشر عاما، يحمل نسخة أخرى من "الخيميائي" ويقرأها بفضول الشباب. حين سألته عن رأيه بعد أن انتهى منها، أجابني قائلا: "لا بأس بها، ولكن لا تتوقع الكثير". الرد على بساطته، أثار في تساؤلا داخليا؛ كيف يمكن أن يتمكن مراهق من قراءة ما عجزت عن إنهائه؟ شعرت وكأن الكتاب بات تحديا شخصيا، وقررت أن أمنحه فرصة ثانية، ولأفهم لماذا لا يزال يحظى بكل هذا الاحتفاء والاهتمام.
ولكن النتيجة التي خرجت بها لم تكن مختلفة كثيرا عما شعرت به في محاولتي الأولى. "الخيميائي" رواية بسيطة في هيكلها، قد تكون مشوقة بالنسبة للشباب، حيث تقدم مزيجا من المغامرات والخيال يخلط بين الأسطورة والواقع. إلا أن محاولات كويلو دمجَ أفكار فلسفية حول وحدة الوجود بدت لي سطحية وصعبة الوصول، كأنها محاولة غير ناضجة لتمرير مفاهيم عقائدية معقدة في سياق روائي مبتور. يشعرك أحيانا وكأنك تستمع إلى شخصية المعلم "يودا" في أفلام "حرب النجوم" وهو يتحدث عن "القوة"، بطريقة تبسط الأفكار لدرجة تفقدها معانيها وأهميتها. حيث حاول كويلو إظهار الارتباط أو الاتصال المباشر بين الكون والروح الفردية، إلى جانب نوع من اللاهوت التطوري الفردي من خلال رحلة سانتياغو في البحث عن كنزه، الذي بدأ بحثه على المستوى المادي، مرورا بالعالم الروحي، وانتهاء في مرحلة الهدف الأسمى للحياة وتحقيق الذات والوصول إلى حالة الوعي الخالص. وهي أفكار مثيرة وعميقة بالمجمل لكن الإخراج كان سطحيا جدا برأيي الشخصي.
قد تكون أعمال كويلو مؤشرا جيدا لبعض الأفكار، ولكن ابحثوا في المنابع الأصلية لهذه الأفكار، ولا تكتفوا بالسطور التي يخطها كويلو، لأن كثيرا من هذه الأفكار مستمدة من نصوص أدبية وفلسفية أعمق وأغنى
ومما زاد من شكي في مقدار الاحتفاء بالرواية هو أن هذه القصة، رغم محاولاتها طرح معان فلسفية، ليست إلا نسخة من حكايا قديمة وردت سابقا في التراث الشعبي والأدبي. فحبكة "الخيميائي" ليست جديدة، حيث تشبه إلى حد بعيد قصة من حكايات "ألف ليلة وليلة"، بل إن الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس سبق كويلو في تناول نفس الفكرة في "حكاية الحالمين"، وهي قصة قصيرة تدور حول شخصين يعيشان في أماكن مختلفة، وكلاهما يختبر تجربة غريبة تتعلق بالحلم. تبدأ القصة بشخص في القاهرة القديمة، الذي يحلم مرارا وتكرارا بكنز مدفون في أصفهان. يقرر السفر لتحقيق حلمه، وعند وصوله، يروي حلمه للوالي الذي اعتقله. يضحك الوالي ويخبره أنه هو الآخر يحلم بكنز مدفون تحت منزل في القاهرة. ويعود إلى القاهرة بعد أن يكتشف أن المنزل المقصود هو منزله، وأن الكنز كان تحت قدميه طوال الوقت. القصة تسلط الضوء على فكرة السعي وراء الأحلام والطموحات، وأحيانا نجد أن ما نبحث عنه بشغف في العالم الخارجي قد يكون أقرب لنا مما نتخيل، داخل ذواتنا أو في محيطنا المباشر.
في النهاية، أظن أنني أتفق مع بعض النقاد الذين يتهمون كويلو بالإنتاج التجاري المفرط لما يشبه حكايات المساعدة الذاتية وبناء الذات في صورة أعمال أدبية. فيبدو أن أعمال كويلو مثل "مخطوطة وجدت في أكرا" و"الجبل الخامس" و"فيرونيكا تقرر أن تموت" و"الخيميائي" وغيرها من الأعمال التي تحاول تقديم منظور سطحي على شكل مواعظ روحية وفلسفية عميقة للجماهير، مستهدفة أولئك الذين لم يدرسوا أو يطلعوا بشكل عميق على الأفكار الأصلية التي اقتبس منها كويلو أعماله وأخرجها بشكل تجاري. فمن جهة، هذا أمر جيد لتشجيع الشباب على ولوج هذه العوالم والتعرف على الأفكار واستقطاب قراء جدد من الناشئة، ولكن يصبح الأمر مزعجا عندما يعامل هؤلاء كويلو وأعماله على أنها نتاج أحد العارفين وصفوة الفلاسفة والمعلمين الصوفيين.
لذلك، أود أن أوجه نصيحة لمن يرى في أعمال باولو كويلو عمقا فلسفيا: قد تكون أعمال كويلو مؤشرا جيدا لبعض الأفكار، ولكن ابحثوا في المنابع الأصلية لهذه الأفكار، ولا تكتفوا بالسطور التي يخطها كويلو، لأن كثيرا من هذه الأفكار مستمدة من نصوص أدبية وفلسفية أعمق وأغنى، ولكنه، للأسف، أحيانا لا يتناولها إلا بشكل سطحي ومبسط. في النهاية، قد يكون "الخيميائي" بداية جيدة لمراهق أو قارئ مبتدئ يتطلع إلى الأدب الفلسفي، ولكنه بلا شك ليس النص الذي يليق بسمعته الواسعة كعمل أدبي فلسفي رائد. إن تقدير هذا العمل المفرط هو ما دفعني لطرح هذا التساؤل: هل نحن حقا أمام عمل أدبي استثنائي؟ أم أمام رواية بسيطة هي وأخواتها جرى الترويج لها بشكل مبالغ فيه؟