لا أحد يربح المليون في لبنان
- أين نحن؟
- في القاع
- إذا لن نسقط مرة أخرى؟
- لا. لكن من الممكن أن يرموا علينا زبالة من فوق!
الشعور الذي انتابني لدى تجاوز سعر صرف الدولار الأميركي العتبة النفسية للمائة ألف ليرة، الورقة النقدية الأكبر للعملة الوطنية، كان أشبه بشعور المرء عندما تبلغ "البثرة" غاية انتفاخها، متحولة إلى "دمل" وتبدأ بنزّ القيح علامة اقتراب الشفاء. شعور أقرب إلى الراحة من ألم الانتفاخ، راحة أن "تبجّ" أخيراً. وهي فعلاً "بجّت".
لكن، هل يشبه المسار الصحي للجسد البشري المسار الاقتصادي للدول؟ وهل يعني بلوغ سيل الدولار زبى العملة اللبنانية أنه لا يمكن لشيء أسوأ أن يحدث؟ بلى ممكن. فلم الارتياح أو ما يشبهه من شعور؟
ربما، لأننا تأكدنا أننا أصبحنا في مسار لا نملك أن نقاومه، يتسارع انحداره بقوة الدفع الذاتي، لذا نترك أنفسنا لقوة التيار تجرفنا أينما أرادت. فالعجز، هو أيضاً يؤمّن للإنسان نوعاً من الراحة "تتعاطاه" عادة الشعوب التي أسقط في يدها، خصوصاً إن كانت قد قامت بكلّ ما تستطيع القيام به. نوع من التسليم بأمر الله، وإن كانت السماء بعيدة عن تقرير هذه الأمور، بعدنا عن السماء شخصياً.
من كان معاشه التقاعدي يساوي الحد الأدنى للأجور قبل الأزمة مثلا، أي ما يعادل 450 دولارا، أصبح يساوي اليوم 5 دولارات
حسناً إذاً. هذا المليون ليرة في حقيبتي لا يساوي أكثر من عشرة دولارات. وفيما أنا أكتب هذه الكلمات، بات تسعة.. ثمانية.. سبعة.. ستة. وحين يحين موعد النشر ربما سيساوي أقل من دولار واحد، أي أن من "يربح المليون" في لبنان اليوم يكون فعليا قد خسره بعيد ربحه بساعات.
كيف أشرح لوالدتي ذات الثمانين عاماً هذا الأمر؟
خلال الفلتان التاريخي للعملة الخضراء، والأهم المتسارع بشكل مذهل، كبار السن هم أكثر من عانوا صعوبة الاستيعاب. تشويش كبير يحاولون استيعابه ولا يفلحون معظم الوقت. من كان معاشه التقاعدي يساوي الحد الأدنى للأجور قبل الأزمة مثلا، أي ما يعادل 450 دولارا، أصبح يساوي اليوم 5 دولارات.
ينظر والدي، الذي توفي منذ شهور قليلة، إلى ما تبقى من نقود عادت بها الخادمة الأجنبية من التسوّق اليومي. لا يصدّق، ويظن أنّ الخادمة التي يثق بأمانتها، قد تعرّضت للغش من الباعة. لكن علامات الذهول تتحوّل إلى الاستياء عندما أؤكد له أنّ الأسعار باتت فعلاً هكذا "يا بابا". فالسوق فالت، والحجة حاضرة: ارتفاع أسعار المحروقات والكهرباء، وطبعاً سعر صرف الدولار، الذي يتحجج به حتى باعة البقدونس.
تسأل والدتي بائع الليمون في طرابلس المنتجة تاريخياً للحمضيات، عن سبب ارتفاع سعره بهذا الشكل ونحن في عزّ الموسم، فيتحجّج بسعر المحروقات. تسأله، وهل تستقل كلّ ليمونة تاكسي خاصاً لتصل إلى دكانك؟ فيضحك لـ"النكتة"، لكنها لا تضحك.
كلّ شيء في لبنان متعفّن أو متغضّن أو مصاب بشيء ما، وبسعر مذهل!
كيف يفوق سعر كيلو الحامض أو البصل مثلا، سعر جوز الهند المستورد؟ ليس احتقارا للبصل لا سمح الله، ولكن لم كان سعر البصل قبل الأزمة الأرخص بين الخضار تقريبا، وأصبح بعد الأزمة أغلى من بقية الخضار؟
الجواب من شقين: الأول هو التصدير، بغض النظر عن الحاجة المحلية، والشق الثاني: الاستيراد لتلبية النقص في الحاجة المحلية، الذي أوجده التصدير بغضّ النظر عن الحاجة المحلية!
ما يثبت ذلك أنّ وزير الاقتصاد أصدر بعيد ارتفاع السعر إلى هذا الحد، قراراً بمنع تصدير البصل. ومع ذلك، لم يهبط سعره إلا قليلاً.
الأسوأ من ارتفاع سعر الخضار، هو الانحدار المهول لنوعية المتوفر منه في السوق المحلية. وبما أننا نتحدث عن البصل، فإنّ جولة واحدة في السوق تظهر أنّ أغلبه متعفّن: فالتجار الذين صدّروا المحصول الجيد وقبضوا بالدولار، ثم استوردوا بهذا الدولار أرخص نوعية من البصل، ليخزنوا بعضه في البرادات بانتظار ارتفاع أسعار الصرف، كانت النتيجة أنه مع انقطاع الكهرباء، غزت الرطوبة البضاعة لدرجة أنّ هذه الأخيرة أينعت! أي أنبتت أغصاناً خضراء. ومع ذلك يعرضها التجار على المستهلكين بأغلى الأسعار!
والأمر لا يقتصر على البصل: كلّ شيء متعفن أو متغضّن أو مصاب بشيء ما، وبسعر مذهل.
هناك استغلال لحاجة المواطن إلى السلعة الرخيصة، التي باتت لازدياد الطلب عليها، غالية الثمن، في غياب أي مقاييس للربح نسبة إلى سعر الكلفة. لا منطق إلا منطق التشليح "والشاطر بشطارته". وغياب مهين لأي نوع من التكافل بين المواطنين.
قلت تكافلاً؟
في العام 2006، وخلال عدوان إسرائيل على لبنان، وقد كانت من أشرس الحروب التي شنّت على المدنيين، كنت أغطي المعارك ميدانياً لصحيفة "السفير"، متجوّلة بين القرى والمدن التي كانت إسرائيل تقصفها. وبما أنني كنت أصل حيث لا يصل الباقون، وأدخل قرى حوصر أهلها بقصف الطرقات وهدم الجسور، فقد اتفقت مع الزميل المصوّر أن نملأ صندوق السيارة بالخبز وبعض أدوية الإسعافات الأولية لتوزيعها على من قد يحتاجها من المواطنين المقطوعين عن أي مدد.
بلاد منذ "تأسيسها" في حالة سيولة، تتخذ كالماء شكل الوعاء الذي يحتوينا
وفي إحدى المرات، اختبأنا في خراج بلدة ما، بانتظار أن نستطيع الدخول بعد توقّف القصف. وما إن توقف حتى ظهرت من العدم بضع سيارات عند مدخل القرية.
اقتربت من أحد السائقين ظنّاً مني أنه ينتظر بعض أهله ليخرجهم من القرية المحاصرة. لكنه نفى قائلاً إنه فقط "يسترزق". والرزقة هنا تتمثل في أي شخص قد يخرج من البلدة ويريد الانتقال إلى مكان آمن. حسناً، وبكم الراكب؟ يجيب بدون ذرة تردّد: خمسمائة دولار!
بهت! كان التاكسي يساوي يومها من الجنوب إلى بيروت أقل من مائة دولار أو ما يعادلها. أهذا أجر يُطلب من نازح هارب من الموت؟ وإن لم يكن معه؟ هل يرفض نقله؟ فيجيب متثاقلاً: "لا أقصد ذلك، ولكن أنا أيضاً أخاطر"، مضيفاً كمن أفحم مخاطبه "أنا كمان بدي عيش"!
هذا الضبع، أليس غباء أن تسأله عن التكافل المواطني؟
أصلاً من أين يأتينا هذا التكافل، في حين أنّ بلادنا لم تفلح مرة في تاريخها في أن تكون وطناً مفهوماً لأبنائه؟ بلاد منذ "تأسيسها" في حالة سيولة، تتخذ كالماء شكل الوعاء الذي يحتوينا.
بلاد وظيفتها في أوقات السلم أن تكون حاضنة، تفقس بيضاً بشرياً "نخباً أول" مخصّصاً للتصدير، أما "المضروب" منه وغير الصالح للتصدير، فللاستهلاك المحلي في مواسم الانتخابات أو الفتن الطائفية، وهذه الأخيرة، بالتجربة، مضمونة عندنا أكثر من سعر صرف الدولار.