كليبتومانيا
ما إن سُمح لهم بزيارتها، حتى اجتاح السياح الإسرائيليون فنادق دبي كالجراد، ملتهمين أخضر المناشف ويابس الصابون وقناني الشامبو وحتى أردية الحمام، مما تزود به الفنادق غرف نزلائها. يومها، ضجت الصحف الإماراتية ثم الإسرائيلية بأخبار هؤلاء "الضيوف" وسلوكهم الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من اللياقة.
وإن كانت قناني الشامبو في الغرفة من حق الضيف وهي مخصصة لاستخدامه أثناء إقامته، فإن مد اليد على علّاقات الملابس وأردية الحمام وملاعق المطعم وصحونه، وحتى اللوحات المعلقة في الغرف، يدعو إلى تسمية هذا السلوك باسمه الحقيقي: إنها سرقة.
في العقدين أو الثلاثة الماضية، نسبت إسرائيل وصفات الحمص والفلافل والتبولة إلى تراثها الغذائي! بكل ما تحمله كلمة تراث عادة، من إشارة إلى ماضٍ قديم غير متوفر في الحالة الإسرائيلية. فالمعلوم أنّ هذه الأطباق، هي عماد المطبخ الشامي، أي في فلسطين، لبنان، سورية والأردن، قبل تأسيس إسرائيل ربما بمئات السنين.
حينها، حصل ضجيج واحتجاج، لكنه لم يستثر الغضب بقدر ما استثار السخرية. فهذه الدولة لم تكفّ منذ إنشائها عن السرقة، حتى ليبدو تاريخها بأكمله عبارة عن مستودع مفقودات من البلدان والشعوب الأخرى.
طبعاً هناك "السرقة المؤسسة". أي سرقة أرض فلسطين، لكن، ومنذ التأسيس، يبدو لمن يتابع أخبارها، أن إسرائيل تشجع أفراد مجتمعها على هذا السلوك بمسميات مختلفة. إن كان عبر تشريعها قوانين تغلف السرقات بالحقوق التاريخية المزعومة توراتياً، أو إن كان عبر تزويرها التاريخ شخصياً.
وسرقات إسرائيل متنوعة: هناك سرقات لاستخدامات أيديولوجية تساند الرواية الصهيونية، مثل سرقة آثار لبنان حين كانت إسرائيل تحتل جنوبه وعاصمته، ثم سرقة بعض آثار العراق أثناء الغزو الأميركي وبعده، ونذكر خاصة في هذا الصدد محاولاتهم المستميتة للعثور على النسخة الأقدم للتوراة، والتي عاد وأهداهم إياها سيئ الذكر أحمد الجلبي.
في كل عرس هناك قرص.. مفقود، نكتشف أنه في جيب إسرائيلي ما. ما يدفع للتفكير إن لم تكن إسرائيل مصابة بداء السرقة، أو الكليبتومانيا.
ولكن هناك أيضاً السرقات العادية، كما في غزة التي تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية أخبار سرقات جنود جيشها لمبالغ مالية من بيوت حي الشجاعية التي دخلوها وتمركزوا فيها أثناء العدوان على القطاع.
في كل عرس هناك قرص.. مفقود، نكتشف أنه في جيب إسرائيلي ما. ما يدفع للتفكير إن لم تكن إسرائيل مصابة بداء السرقة، أو الكليبتومانيا.
ولكن ما هو مرض الكليبتومانيا؟ هو حسب التعريف العلمي اضطراب سلوكي يتطور ليصبح مرضاً. ومن الممكن أن يتطور هذا الداء، حسب د. ألكسي بورتنوف، وهو طبيب أمراض نفسية، لدى الأشخاص الذين نشأوا في أسر معادية للمجتمع (هل يصف مجتمع المستوطنين؟). فمريض الكليبتومانيا يعاني من أنه غير محبوب فيقوم بالسرقة للفت الانتباه. وبالطبع لا يمكننا القول بأن حب الإسرائيليين يتملك أفئدة الشعوب العربية.
لكن هذا المرض يصيب الأفراد، فهل من الممكن أنَّه يصيب الدول عبر تفشيه بين أفراد مجتمعها؟
من شاهد الفيديو الشهير الذي سرى على وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، والذي يصور حواراً بين سيدة مقدسية صودر منزلها وبين جارها المستوطن الذي احتل المنزل؟ كان الأخير يبرر فعلته حين لامته على ما فعل بالقول: "لو لم آخذه لأخذه غيري". هكذا، يعتبر هؤلاء أنَّ بيوت الفلسطينيين المصادرة (وهل تلك المصادرة سوى سطو مغلف بالقانون؟) مجرد غنائم لهم. لذا، يتسابقون لوضع اليد عليها.
أما الحادثة الأخيرة التي حصلت في تركيا فلقد كانت مدهشة بتفاصيلها.
حصل زلزال مدمر في تركيا وسورية. وكما هو معروف، حين تضرب مأساة ما بلداً، يخفّ الجميع إلى المساعدة، وتستغل "الفرصة" لمحو أو تنفيس الأحقاد وتطبيع العلاقات بين الدول كنوع من التعاضد الإنساني الذي يوحد البشر في المصائب والكوارث. وبغض النظر عن مدى إنسانية هذه المواقف في بعض الأحيان، لكنها تستقبل بالتشجيع والشكر والتحية.
هكذا خفّت اليونان مثلاً، وبالرغم من العلاقات المتوترة مع تركيا، إلى إرسال فرق إنقاذ ومساعدات إلى الجارة المنكوبة كما حصل لغالبية دول العالم التي سارعت للمساعدة.
وحذت إسرائيل حذو بقية الدول "المحترمة"، فأرسلت فرق إغاثة سرعان ما تبين أنها.. غير محترمة! فعادت أدراجها "لضرورات أمنية" كما قيل في الصحف، بعد مشاركة بسيطة، لكنها عادت بما خفّ حمله وغلا ثمنه: مخطوطات تاريخية أثرية تعرف باسم لفائف أو "كتاب استير" وهي تخص كنيس أنطاكيا في لواء الإسكندرون الذي ضربه الزلزال.
المدهش في الموضوع أن من فعلها لم يتورع عن الظهور في تغريدة على "تويتر" مع المسروقات، كما لو أنه لا يعلم أنّه سلب مقتنيات دولة أخرى. أو كأن الطبيعة الدينية لتلك المقتنيات، تبرر له أخذها! أو كأنه بكل بساطة معتاد على عدم المساءلة. ثم جرت محاولة لفلفة الفضيحة بالقول على لسان السارق، إنّ شخصاً مسناً (وإن يكن مسناً؟) في أنطاكيا كلّف عضو فرقة الإنقاذ نقل المخطوطات الأثرية إلى إسرائيل "لئلا تضيع بعد تهدم كنيس أنطاكيا".
على أساس أنه لا يمكن لهذه المقتنيات الأثرية أن تكون بأمان إلا بعيداً عن تركيا المعرّضة للزلازل في حين أنّ إسرائيل لا يمكن أن يضربها زلزال!
حسناً في النهاية استعادت تركيا لفائف المخطوطات، وأصدرت بياناً "توضح" فيه بامتعاض غير خافٍ، أنّ كل ما هو موجود في المؤسسات التابعة للدولة، ومنها الكنيس التركي، هي ملك للدولة التركية.
لكن ظلت أسئلة كثيرة ماثلة في الذهن ربما كان أهمّها: لم كانت فرق الإنقاذ هذه بجانب الكنيس في أنطاكيا بالرغم من أن الزلزال أصاب عشر محافظات شاسعة وواسعة؟ من عيّن لها هذه البقعة لتعمل فيها؟ ولإنقاذ من أو ماذا تحديداً؟
لا أعلم، ولكن المؤكد أنه يصعب بعد كل ما تقدم التصديق بأن كل ذلك كان مجرد صدفة.