في مجالس شيخي الحكيم
عبد الحفيظ العمري
شيخي رجلٌ طاعنٌ في السن، لكنه خَبَرَ الناس، وعَلِمَ تقلبات الزمان، وله في الحكمةِ باعٌ طويل، وأنا أزورهُ بين الفينةِ والأخرى لأتزوّدَ من حكمته.
هو اليوم معتكفٌ في خلوته يتعبّد بالتفكّر، ويرى أنّ تلك العبادة أهملها كثيرٌ من الخلق. وهنا أوردُ بعضاً مما دار في مجالسه.
(1)
سألتُ شيخي: لِمَ يصدّق الناس الخُرافة؟
قال: الخرافة مريحة للعقل، فهي لا تحتاجُ إلى تفكير كي يتقبّلها، بل يمكننا أن نقول إنّها تكون على هواه.
قلتُ: وهل للعقل هوى؟
قال: نعم، أهواءُ العقل نابعة من طريقة تفكيره؛ فكلّما كانت طريقة التفكير سطحية سيكون العقل مُتقبِّلاً لأيّ رأيٍ دون فحصه. لكن العقل الناضج لا يتّبع هواه، أو لنقل يكون هواه ناضجاً، فلا تنطلي عليه الخرافات ولا الإشاعات.
قلتُ: لكننا نجد أناساً أصحاب مراكز عليا في العلم، ويؤمنون بما نراه نحن خرافة؛ فقد نجدُ عالماً فيزيائياً مرموقاً، يعبد صنماً أو بقرة أو ما شابه.
قال: مثل هؤلاء هم مبدعون في العلم الطبيعي كالفيزياء ونحوه، وهو علم قائم على حيثياتِ من تجارب ونظريّات وقوانين، لكن العقائد شيء آخر؛ العقيدة أمرٌ نابع من الإيمان، وليست نتاجَ تجربة علمية كي يتشابه الناس كلّهم في الإيمان بها، وهذه العقائد تختلف باختلاف بيئاتِ وجود الأشخاص؛ فالذي يُولد في بيئةٍ مسلمة سيكون مسلماً، ومَنْ يولد في بيئةٍ ملحدة سيكون ملحداً وهكذا..، أمّا علاقة هذا الإيمان بالخرافة، فأنت قلت بنفسك: يؤمنون بما نراه نحن خرافة. الآن أنت تتكلّم من وجهةِ نظرك كمسلم، في حين هو كرجل غير مسلم يرى عقيدته صحيحة، وقد تجد له مبرّراته لذلك، فالموضوع نسبي.
مشكلتنا هي في الخرافة التي تكون مغلّفة باسم الدين؛ لأنها ستكون خرافة مقدّسة، وكل مَنْ يحاربها سيكون في نظر مصدقيها مارقاً من الدين
قلتُ: غير أنّا نجد أناساً يتحوّلون عن عقائدهم بعد ذلك.
قال: الذي يتحوّل من عقيدته إلى عقيدةٍ أخرى، لا يكون هذا التحوّل إلا نتاج دراسةٍ وإمعان النظر في بيئته الأصلية، وكذا الاطلاع على البيئاتِ الأخرى، مع وجود حريّة التعبير في مكان وجوده.
واستطرد قائلاً: مشكلتنا هي في الخرافة التي تكون مغلّفة باسم الدين؛ لأنها ستكون خرافة مقدّسة، وكل مَنْ يحاربها سيكون في نظر مصدقيها مارقاً من الدين. ولقد صدق الشيخ محمد الغزالي المصري في قوله: "هذا الدين يحتاج عقلاً لا يؤمن بالخرافة، وقلباً لا يتقبل الرذيلة".
قلتُ: ذكرتَ يا شيخي في بداية حديثك أنّ العقل الناضج لا يتّبع هواه، فكيف نجعل عقولنا ناضجة؟
قال: هذا النضج يكون ثمرة إمعان النظر في تجارب الحياة، سواءً المسطورة في بطون الكتب، أو المعروضة أمامنا خلال حياتنا الشخصية، إنّ قراءة تجارب الآخرين تنمّي مهارات عقولنا، وكذا الانفتاح على كلّ آخر، بعد التثبّت من هُويّتنا جيّداً حتى لا نذوب في الآخر. فالنضج لا يأتي في مياه راكدة.
(2)
قلتُ لشيخي: كوارثُ الزمان كثيرة على هذه الأمّة، فهل هذه عقوبة لها؟
قال: عقوبة على ماذا؟
قلتُ: على تقصيرها، على عدم التزامها بدينها... إلخ ممّا يقوله لنا خطباؤنا على منابرهم دائماً.
قال: الأمر يحتاج تفصيل؛ فلو الأمر كان عقوبةً للأمّة على ما ذكرت؛ فلِمَ لا يعاقب الله الأمم الأخرى غير المسلمة على عدم اعتناقها الدين الإسلامي، ما دامت العقوبة ستطاول المسلمين المقصّرين، فما بالك بعدم المسلمين؟! أليس هذا هو المفترض حسب كلامهم؟
قلتُ في خفوت: المفترض..
قال: الأمر ليس عقوبة دينية، كما يقول خطباؤنا الكرام بسذاجة. فالأمّة تتجرّع الكوارث بسبب تقصيرها في الأخذ بالسنن الكونية التي أودعها الله في كونه الفسيح.
قلتُ: كيف، هلّا شرحت لي؟
قال: هناك شيء اسمه عطاء الربوبية؛ وهو للناس أجمعين، مسلمهم وكافرهم، هذا العطاء يناله مَنْ أخذ بأسبابِ النجاح؛ فالذي ينفق الملايين من أجل إجراء تجربة علمية لا يتساوى مع الذي لا ينفق شيئاً؛ لأنّ هذا لن يكون من العدل في شيء، بغضّ النظر عن تديّن المنفق وتديّن المقتر على نفسه؛ فلا يأتي شخص ليقول: لماذا لا يساعد الله المسلمين في أمور دنياهم؟ كيف يساعدهم وهم لم يبذلوا من الجهد حتى اليسير في الأخذ بأسباب النجاح؟
أمّة مترهلة متكاسلة، لا تبذل جهداً وتريد نصراً يأتيها من السماء
هنا يتجلّى عطاء الربوبية الذي يناله مَنْ أخذ بكلِّ الأسباب الماديّة في إنجاح عمله، إذ يقول الدكتور مصطفى محمود: "إذا نزل المسلم والكافر إلى البحر، فلن ينجو إلا مَنْ يُتقن السباحة".
وهذا منتهى العدل الإلهي، فلو أنّ الأمّة المسلمة أخذت بأسباب النجاح، كما يأمر دينها، لفازت دنيا وآخرة، لكنها أمّة مترهلة متكاسلة، لا تبذل جهداً وتريد نصراً يأتيها من السماء. فهل يُعقل هذا؟ أما بالنسبة للكوارث؛ فهي تطاول الجميع، مسلمين أو غير مسلمين، ولا دخل للدين بالأمر.
قلتُ: فلِمَ يُصرّ خطباؤنا على ربط الأمر بالدين وتقصيرنا؟
قال: هؤلاء مساكين، قد أجد كلامهم جاء عن حسن نيّة، يريدون الناس أن تلتزم بالدين كما يجب، أو كما يرون، لذا يسوقون مثل هذه الشواهد. والأفضل أن يبصّروا الناس بسيرةِ نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ففيها النهج الواضح كي نفهم ديننا على حقيقته.
(3)
مما أدركتُ من أقوال شيخي الحكيم:
"لا تصاحب مَنْ لا يزيدك خيراً في دينك أو دنياك؛ ولا تظنّن أنّ كثرة الأصحاب دليلُ فلاح؛ فصاحبٌ صدوقٌ في صحبته لك، خيرٌ لك من جمعٍ غفير من أصحاب لا يهدون إلى خير ولا يكفونك شرهم!".