عن ماضينا الذي لا يمضي
(1)
في المقهى، وفيما كان الجميع مشغولاً بشرب القهوة، وأحاديث الكرة، والمشاغل اليومية، كنت وبعض الأصدقاء، كآخر الديناصورات في هذا المكان، ممن يناقش قضايا الفكر والثقافة، يعدّد أسماء المفكرين العرب ورؤاهم: محمد عابد الجابري، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، عبد الله العروي، طه عبد الرحمن، مالك بن نبي، عبد المجيد الشرفي، وآخرون، قدماء ومعاصرون، مروا بقضايا التراث والتجديد، الدين والعلمانية، الأصالة والمعاصرة، الصراعات الفكرية، قديمها وحديثها، الملل والنحل، الشيعة والسنة، الغزالي وابن رشد، محن ابن تيمية، ابن حنبل، الأشاعرة والمعتزلة...
يا إلهي، منذ زمن طويل لم نخرج من هذه البركة ولم نر إلّا ماءها. من زمن قريب، وفي حديث النفس إلى النفس، وأنا أتساءل عن هذه الكارثة. كارثة هذا التبئير على الماضي، كأنّه القضية الوحيدة. هو مركز اهتمام نخبنا المثقفة ومشاريع كبار مفكرينا. إنّه الشجرة التي غطّت غابة وجودنا الجماعي عبر الزمن، كأنّه المعطى الوحيد في معادلة وجودنا. يكفي أن نستعرض الكتب الصادرة في المجالات الفكرية، لنجد أنّ قضايا الماضي والتراث، بصفة عامة من القضايا الطاغية (كما يمكن إحصاء أطروحات البحث العلمي في جامعات العلوم الإنسانية للتأكد من ذلك). لا يعني أنّ هذه القضايا غير مهمة بل هي ذات قيمة حقيقية، لكن أن تستهلك جُلّ الجهد الفكري، هو الذي يجب أن يكون محلّ سؤال ومراجعة، كما أنّ ربط أيّ مشروع نهوض لا يكون إلا بإصلاح الماضي أو القطع معه، وهو في رأيي تفكير معطّل لأيّ نهوض. إنّ الماضي بكلّ ما فيه هو معطى، وهو بُعد من أبعاد عدة تُكوِّن وجودنا الجماعي. إنّ حلّ المعادلة، معادلة التطوّر، تفترض التعامل بتوازن مع معطيات الماضي والحاضر والمستقبل (أستعمل عبارة معادلة من الرياضيات قصداً لأنّ المعطيات عموماً ثابتة، والحل يفترض إيجاد التركيب المناسب لها). إنّ موضوع التفكير بالمستقبل، الذي لم يُكتب فيه إلا القليل وبشكل متفرّق، ليس مشروعاً فردياً، بل هو مشروع مجتمع تؤسّسه مراكز تفكير متعدّدة الاختصاصات، وهي المراكز المفقودة في واقعنا. فهل يمكن أن نرى يوماً ما مقاربات للمستقبل (ليس مركزها الماضي)، هي محلّ جدل لتطويرها وتجسيدها على أرض الواقع؟
(2)
الحضور المتغوّل للماضي تسرّب أيضاً إلى حياتنا الفردية، في المدرسة والجامعة، في المنزل والشارع، في العمل والمقهى، في التعامل مع أنفسنا ومع الآخرين. لا تخلو لحظة من استعادة شيء قديم يتحكّم في تفكيرنا وسلوكنا. كيف وقع ذلك؟ لماذا؟ أفلام لا تُحصى، وروايات لا تعدّ، بطلها هذا الماضي. هو علّة كلّ شيء، به نفسّر حتى قوانين الفيزياء والكيمياء. هل نحن أحياء في الحاضر؟ طبعاً لا. وجودنا فيه مجرّد حضور فيزيائي لا أكثر. كل أقوالنا وأفعالنا، تقريباً، رهينة الماضي فردياً كان أم جماعياً. رهينة ما ورثناه دون أيّة إضافة إبداعية تشير إلينا، أو إعادة نظر فيما سبق. دون وعي بأنفسنا وقدرتنا كأنّنا أشياء من جملة الجمادات. نبدو في حالة استسلام مطلق، وبلا تفاعل حقيقي مع الحاضر.
لا تخلو لحظة من استعادة شيء قديم يتحكّم في تفكيرنا وسلوكنا
لكن ماذا عن المستقبل؟ جلّنا يفكر بأنه "مجرّد قدر محتوم، ولا حاجة للتفكير فيه. ليأت كما يريد. انتهت لعبة وجودنا".
هل لكلٍّ فرد منا، من التلميذ والطالب والعامل، الرجل والمرأة، أهداف ورؤى في حياته؟ هل لديه خريطة طريق لتصريف شؤونه؟ هل يفكر في تحديات مستقبله، ماذا عليه أن يقرأ ويتابع؟ كيف يتميّز في دراسته؟ كيف يوّسع دائرة اهتماماته؟ كيف يطوّر نفسه؟ كيف يهتم بنفسه صحياً؟ هل يمارس هواية؟ هل يفكّر بتطوير نفسه في الاختصاص؟ هل يغيّر عمله لتطوير تجربته؟ هل يصادق الإيجابيين والفاعلين...؟ كيف يستثمر ما تتيحه التكنولوجيا؟
الكثير منّا لا يسأل مثل هذه الأسئلة ولو جزئياً. لا نفعل غير اللعن المتكرّر للماضي والحاضر والظروف. حضور المستقبل في وعينا واهتماماتنا هو بين الضعف والبساطة، وهو ما يحتاج إلى مراجعة حقيقية. للتربية في جميع مستوياتها دور في ذلك. لكن من يمكنه أن يقود المهمة غير نخبة واعية بالأمر تضع المستقبل في مركز اهتمامها.
مع أنّ الحياة أكثر تعقيداً مما ذكرنا، فإنّ بناء عقل يقول بمركزية المستقبل، يبدو لي أمراً مهماً.