طوفان الأقصى وطوفان الكتابة
لا شك في أنّ طُوفان الأقصى معركة كبيرة وساحاتها كثيرة، والساحات الظاهرة للعيان منها، هي ساحات السياسة والحرب والإعلام، فيما تشكّل الثقافة إحدى ساحاتها اللا مرئية. والثقافة مجالها واسع، يشمل مختلف الفنون وأشكال الإبداع. ولعلّ الكتابة والكتب من أهم هذه المجالات، نظرًا إلى أهميتها في التعبير عن الوضع بأبعاده المتعدّدة، ونظرًا إلى أهميته أيضًا في ترسيخِ السرديّة الفلسطينيّة الآن، وفي المستقبل.
كتبتُ عن هذا الأمر في تعليقي على كتابِ "وقت مستقطع للنجاة.. يوميّات حرب غزة" للروائي الفلسطيني، عاطف أبو سيف، الذي قضى أكثر من ثمانين يوماً بين أجواء القصف والتهجير والقتل والتجويع، سجّل فيها الكثير من تفاصيلِ معاناةِ الفلسطينيين الغزيين في الحرب.
وما أعادني إلى الموضوع هو ما قرأته من إشاراتٍ لافتةٍ في مقالِ الكاتب الفلسطيني سهيل كيوان في جريدة القدس العربي، تحت عنوان "هل نشهد طوفان الكتابة؟" تعليقًا على عددِ الكتب التي نُشرت حول "طوفان الأقصى" في العالم العربي وإسرائيل. فقد أحصى الكاتب حوالي عشرة كتب عربيّة صدرت حول الموضوع، من بينها كتابان مهمان اطلعت عليهما وهما: "وقت مستقطع للنجاة" لعاطف أبو سيف، و"سرديات الطوفان" للصحافي البارز صبحي حديدي، بينما نُشر في إسرائيل "بحسب الملحق الثقافي لصحيفة هآرتس ثلاثة وثمانون كتاباً تناولت أحداث السابع من أكتوبر 2023، وذلك حتى آخر مايو/أيار الأخير، وقد تصل إلى أكثر من مائة كتاب بحلول الذكرى الأولى لهذه الحرب. بعضها شهادات ممّن عاشوا السّاعات الأولى من هجوم السابع من أكتوبر، وبعضها توجيهية وإرشادات نفسية للأهالي كيف يتعاملون مع الحدث وكيف يشرحون لأطفالهم ما جرى ويجري. ثمّ صدرت كتب تحوي ألبومات صور تناولت السابع من أكتوبر، ووثائق سياسية ومواقف وغيرها، تتبعها نصوص أدبية وشعرية".
طوفان الكتابة والكتب هو مطلب ملح، ومن الضروري أن تنخرط فيه كلّ مكوّنات الساحة الثقافية
أعتقدُ أنّ مقارنة هذه الأرقام بين ما أنتجه العرب وما أنتجته إسرائيل من كتبٍ حول هذا الحدث، يُعبِّر عن عدّةِ أمورٍ، أوّلها غياب الوعي لدى النخب المثقفة والمؤسّسات الثقافية المُساندة للقضيّة الفلسطينية بأهميّةِ هذه الساحة ودورها في أيّة معركة من أجل التحرّر والنهوض. ويدلّ أيضًا على غياب العقل المبدع لدى المؤسّسة الثقافيّة، هذا العقل الذي تقع عليه مسؤولية ابتكار أشكالٍ جديدة للتعبير عن الحدث، وكلّ ما يدور فيه وحوله من وقائع ومواقف. وفي المقابل، هناك من ينظّر حول مسألة لا جدوى الكتابة والكتب في ظلّ هذه الأوضاع، وفي حالاتٍ أخرى يُقلّل من قيمةِ الكتابة عن حدثٍ آنيٍّ. ويرى هؤلاء أنّ الكتابة تحتاج إلى الوقت وهضم الحدث أولًا، وهو تصوّر يُضيّع الكثير من الأفكار واللحظاتِ المهمة الجديرة بالتسجيل بشكلٍ ما.
ومن الأمور التي تكشفها الأرقام أيضًا، حجم التقصير في حقِّ أهالينا في غزّة. وهنا، قد يكون الوضع صعبًا وهو ما يجعل الكتابة في مرتبةٍ متأخرة من الاهتمامات. لكنّي أعتقد أنّ المادة المتوفّرة كافية لإنجازِ مئات الأعمال من زوايا نظرٍ مختلفة. هناك مقالات ونصوص كثيرة كُتبت، ومحاضرات ألقيت، وصور لا تُحصى، وهذا مهم جدًّا، ومع ذلك يبقى السؤال: كيف يمكن أن لا يكون ذلك متفرّقًا بين وسائل التواصل والمواقع الإلكترونية؟ وكيف يمكن جعله في متناول الجميع بطريقةٍ مُرتَّبة ومنظّمة، وبما يجمع بين النصّ والصورة واللوحة وغيرها؟
قرأتُ عن جهدٍ ما في هذا الاتجاه تقوم به مؤسّسة غير رسمية فلسطينية، لكنّنا لم نر بعد شيئًا ملموسًا، وإن كان المشروع مشروع مؤسّسات وليس مؤسسة واحدة.
في ساحةِ الكتابة والكتب نحن في حاجةٍ إلى طوفانٍ يُوازي المعركة في بقيةِ الساحات، ليعبّرَ عمّا يحدث في غزّة من إبادةٍ، وما يلقاه الأسرى من معاملةٍ بدائيةٍ تؤكّد التخلف العميق لإسرائيل وخطورتها على الاجتماع الإنساني، لما تُشرِّع له من ممارساتٍ وأفكارٍ عنصرية ضدّ الآخر والمختلف، بل إنّ طوفان الكتابة والكتب هو مطلب ملح، ومن الضروري أن تنخرط فيه كلّ مكوّنات الساحة الثقافية، ولا أرى أنّ الأمر يستدعي انتظار انقشاع غبار المعركة لفعل ذلك.