"سرديات الطوفان".. بين الثقافة والسياسة

13 ديسمبر 2024
+ الخط -

من الكتب العربية القليلة التي صدرت عن حرب غزّة، كتاب "سرديات الطوفان، غزة المعمدان وصهيون الإبادة" لصبحي حديدي، وقد صدر في الأردن عن دار الاهلية، بداية سنة 2024، في 270 صفحة، وهو يضم مقالات صحافية موزّعة على قسمين؛ الأول كُتبت مقالاته قبل عملية "طوفان الأقصى"، وأرادها الكاتب نوعًا من التوطئة لوضع الحدث في سياقاته التاريخية متعدّدة الخلفيات، والثاني جملة مقالات حديثة حول حدث الطوفان.

الكاتب السوري صبحي حديدي هو الناقد الصحافي الذي عرفناه من خلال مقالاته في جريدة القدس العربي، منذ أوّل التسعينيات، وأيضا من خلال قراءاته النقدية وترجماته في مجلة الكرمل، المجلة التي أسّسها وأشرف عليها الشاعر الراحل محمود درويش.  

في ذهني يحضر صبحي حديدي ضمن رباعي من أبرز المثقفين العرب، وهم الراحلون إدوارد سعيد ومحمود درويش وأمجد ناصر، وذلك بناءً على ما قرأته من مقالاته النقدية حول كتبهم والإشارات المتفرّقة حول علاقته بهم، وهي المقالات التي تُشير إلى نوع من الالتقاء في الاهتمامات والرؤى الفكرية والإبداعية، ومنها إشارته في هذا الكتاب إلى إدوارد سعيد، في أكثر من موقع، بينها حواره القصير معه حول إمكانية أن يمارس الناقد الثقافي كتابة المقالة السياسية، وقد أجابه سعيد حينها بالمحكية الفلسطينية "الناقد اللي ما بيكتب مقال سياسي، كبِّرْ عليه!"، وهي إجابة شافية وافية بليغة، كما قال صبحي حديدي، وتستحق أن تكون شعارًا ولافتة بارزة أمام كلّ الكتّاب والمثقفين.

يهدم حديدي الجدران بين الثقافي والسياسي، واضعاً الجميع، الأدب والسياسة والتاريخ والفلسفة والأركيولوجيا... في فضاءٍ مفتوح وحر

في هذا الكتاب يبدو لي أنّ صبحي حديدي قد التقط الإجابة جيّدًا بل أضاف إليها الكثير. ففي كلّ مقالاته يبدو صاحب كتاب "إدوارد سعيد الناقد" هادمًا لكلّ الجدران بين الثقافي والسياسي، واضعًا الجميع، الأدب والسياسة والتاريخ والفلسفة والأركيولوجيا وعلم الاجتماع وغيرها من المعارف، في فضاءٍ مفتوح ومشرع، ولا يكتفي بذلك بل يجمع الماضي والحاضر معًا. فهو إذ ينطلق من حدث مرتبط بالقضيّة الفلسطينية، سياسي أو ثقافي، آني محدود في الزمن، فإنّه يجعله ممتدًا في الاتجاهين، ماضيًا ومستقبلًا، من خلال توظيف كلّ المعارف المُشار إليها سابقا والحفر في أعماق الحدث وخلفيّاته ليتحوّل من حدثٍ معزول إلى حدثٍ موصول بما خفي من أفكار وممارسات. والجميل في توظيف هذه المعارف أنّه يتوخى أسلوبًا مختصرًا وإشاريًا (يلتقي مع اهتماماته الأدبية والشعرية) أكثر منه سردًا لنظريات أكاديمية جافة، لا قدرة لعمود صحافي أن يستوعبها، ولا لقارئ معاصر رُبِّيَ على السرعة والاختصار أن يمسك بها.

هذا المنهج والأسلوب في الكتابة نجد تطبيقه في هذا الكتاب على موضوع الحرب على غزّة، باعتبارها حدثًا آنيًا قادحًا للكتابة، لكنه، كما أشرنا، لا يكتفي بذلك ولا يستغرق في استعراض ما يحدث، بل يستنطق بعض الأخبار والتصريحات والمواقف والممارسات التي قد تبدو لنا بسيطة، ولكن معول الحفر عند حديدي يجعلها منجمًا لا ينتهي، ويصبح مركزها، ليس الحرب نفسها، بل محرّكها الأساسي الفكرة الصهيونية وتحوّلاتها المعاصرة في اتجاه "التضخم الاستيطاني والاستعمار العنصري، واللهاث الحثيث صوب منظومات الأبارتيد". وللمزيد حول هذه الفكرة، أسسها الكبرى، رموزها، كُتبها، سياسيوها، فلاسفتها، نقادها، معارضوها...، يستعرض لنا صبحي حديدي في هذا الكتاب، وعبر مختلف المقالات، وضمن أسلوب الكتابة الذي أشرنا إليه، سلسلة طويلة من المراجع والأسماء، كتبا وكُتًّابا، وفي مختلف المجالات، التي تتناول الفكرة وأبعادها المتعدّدة وتفتح أفقًا واسعًا للقارئ لمزيد من البحث والمعرفة حولها. من هذه المراجع نورمان فنكلستين وكتابه "صناعة الهولوكوست، تأملات في استثمار المعاناة اليهودية"، وتيودور هامرو في كتاب "لماذا وقفنا متفرجين: أوروبا، أميركا والهولوكوست"، وغيرها من المراجع، إلى أن يصل إلى بيان التحالف الدولي لاستذكار الهولوكوست سنة 2016، والذي تتبناه 29 دولة (وثيقة تعكس المحاولات الصهيونية لفرض أجندتها وإلزام الدول بها)، بيان وإعلان القدس حول العداء للسامية، والذي وقَّع عليه أكثر من 200 مختص بالدراسات السامية واليهودية والفلسطينية والإسرائيلية والشرق أوسطية سنة 2021 (وهو بيان مضاد لبيان بوخاريست، مع أهميته، يرى حديدي، أنّ اليد العليا ما زالت لبيان بوخاريست الذي تتبناه جلّ الدول الكبرى وعلى أساسه تُصنّف الممارسات والأقوال المعادية للسامية)، وغيرها من الكتب والمقالات والأسماء التي وردت على مدى أكثر من خمسين مقالا، لتجعل من هذا العمل، إضافة لما فيه من تحاليل وأفكار، عنوانًا لقائمة من المراجع التي لا غنى عنها لكلّ باحثٍ في هذا الموضوع.

كلّ ما تفعله الصهيونية هو محاولة فرض سرديتها وتحويل وجهة التاريخ الحقيقي في اتجاهٍ ما، يخدمها

طبعًا، هذه ليست الزاوية الوحيدة للتفاعل مع الكتاب، فعناوين المقالات لافتة أيضًا، فهي مثيرة وحمّالة معان لا تنتهي، وتمتح من التاريخ والأسطورة، من أسماء المفكرين والسياسيين والأمكنة، من عناوين الأحداث وغيرها، وذلك في تركيب بديع وجاذب يُخرج القارئ من دائرة الحياد. من العناوين مثلا: الكتابة بنار الحصار، جيجيك في غزة: الراقص والضحية، إدوارد سعيد في الليلة الظلماء، يهوشع بن نون في غزة، أركيولوجيا فلسطين: ناصرة يسوع وقدس أللنبي، ورقة كنفاني الغزاوية، في الأدب كما في الصيرفة... وربما قبل عناوين المقالات لا بُدّ من الانتباه إلى عنوان الكتاب نفسه، فما يشير إليه حول السرديات مهم وأساسي أيضا لأنّ كلّ ما تفعله الصهيونية هو محاولة فرض سرديتها وتحويل وجهة التاريخ الحقيقي في اتجاه ما يخدمها. واللافت أنّها لا تترك مجالًا دون أن تدخله حتى تصل إلى المطبخ، وقد ورد ذلك في الكتاب في مقال طريف وبليغ بعنوان "مطبخ غزة والكعكة المعادية للسامية"، وهو مقال يكشف عقلية المحو والإبادة الصهيونية التي لا تستثني شيئًا، والتي تجعل من كعكة بالأبيض والأسود، تُصنع في غزّة، علامة على العداء للسامية، والفلافل من علامات المطبخ الإسرائيلي القديمة، ما يعني أننا إزاء عقلية غير طبيعية، أعتقد أنّها بقدر ما تُهدّد الفلسطينيين، تُهدّد أيضًا العرب والعالم. عقلية تلتقي مع فكرة العولمة وتوحيد الثقافة العالمية والبشرية على أساس الثقافة الغربية ولبّها الصهيوني في رغبةٍ لإعادة كتابة تاريخ العالم.

هذا غيض من فيض هذا الكتاب الذي يُمكن أن يُقرأ بمتعة أكثر من مرة. ومع أنه نشأ من حدث آني، فإني أعتقد أنّ أسلوبه وعمقه يجعلانه قادرًا على الصمود في وجه الزمن ومرجعًا مهمًا لكلّ الباحثين، وعنوانًا للكتابة الصحافية النوعية، المازجة بين الثقافة والسياسة بإتقانٍ نادر.