الحوار أساس العلاقات
1
يُقال "إن الذي لا يقرأ التاريخ يُكرر أخطاءه!". ويمكن أن نضيف أيضاً: "إن الذي لا يقرأ الواقع، واقعه أو واقع غيره، يعمل على تعميق أخطائه". فكرة المقال جاءت من مشهدين متناقضين في منطقتنا العربية والإسلامية، أولها الأخبار المتداولة والتفاعلات الداخلية التركية بعد نتائج الانتخابات البلدية التي فازت فيها المعارضة وخسر فيها الحزب الحاكم، العدالة والتنمية، حزب الرئيس أردوغان، بعد أكثر من عشريتين في السلطة، وإنجازات اقتصادية كبرى جعلت من تركيا قوة اقتصادية وإقليمية ذات تأثير معلوم في أكثر من بلد وقارة. الأخبار تتحدث عن دعوة أردوغان نفسه وحزبه إلى القيام بنقد ذاتي والبحث عن أوجه التقصير بعيداً عن البحث عن أسباب خارجية، ورغبة مشتركة بين الحزب الخاسر والحزب الرابح، حزب الشعب الجمهوري، في الانتخابات البلدية للتأسيس لعلاقة جديدة بين السلطة والمعارضة أساسها الحوار حول القضايا الخلافية والعمل على التعاون في القضايا المتفق عليها، علاقة جديدة تتجاوز حالة العداء والنقد الحاد والاتهامات المتبادلة حد التخوين التي استمرت، بوتائر مختلفة، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة سنة 2002. بدأ التقارب بين الحزبين بتعبير زعيم المعارضة عن رغبة في تطبيع العلاقة مع حزب السلطة والذهاب نحو علاقة جديدة أساسها الحوار، تقطع مع العلاقة المتشنجة في مراحل سابقة، دعوة استجاب لها الحزب الحاكم وأردوغان بإيجابية تكللت بعقد لقاء أول نوقشت فيه عدة قضايا خلافية طرحتها المعارضة، لقاء يبدو ناجحاً حيث عبر الطرفان عند خروجهم من الاجتماع عن إيجابيته، والاتفاق على عقد لقاء آخر يحضر فيه أردوغان في مقر حزب المعارضة.
2
المشهد الثاني في المنطقة العربية هو مشهد الاستقطاب الحاد داخل الدول والمجتمعات وأحياناً بين الدول، وإن كان بشكل خفي، استقطاب في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، يتجلى في كل زاوية، في الشوارع والأحياء، في القرى والمدن، في العواصم والمناطق الداخلية، في داخل البلد وخارجه، كيف لا وقد جعلت وسائل التواصل الاجتماعي العالم قرية كما يقال، أحياناً تأتيك تجليات هذا الاستقطاب وهذه الصراعات بين يديك، وقد تلطمك دون أن تكون بحثت عنها.
المشهد الثاني في المنطقة العربية هو مشهد الاستقطاب الحاد داخل الدول والمجتمعات وأحياناً بين الدول، وإن كان بشكل خفي، استقطاب في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية
استقطابات عامة شاملة تشبه حريقاً واسعاً في غابة، تحتار كيف يمكن إطفاؤه؟ من أين نبدأ؟ هل ثمة حل أصلاً لهذا الحريق، حريق الصراع في كل زاوية؟ خاصة بعد كل ما خلفه من نتائج كارثية على الفرد والمجتمع أحياناً جروحاً غائرة لا يمكن أن تندمل إلا بقوة خارقة على التجاوز والحرص على مستقبل الأجيال القادمة حتى تجد ميراثاً طيباً لا متعفناً يزيد حياتها تعقيدات أخرى هي في غنى عنها.
3
بعيداً عن الجدل حول هل أن تركيا هي النموذج الأمثل في هذا السياق أم لا؟ خاصة بما لها وعليها في طبيعة ديمقراطيتها وفي طريقة معالجتها للقضية الكردية وفي اتجاهات دعمها لهذه الأطراف أو تلك، فإن الجنوح إلى الحوار في تركيا أو في غيرها هو لب التجربة التي يجب الاستفادة منها في منطقتنا العربية، الحوار في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها وهو ما من شأنه أن يخفض من حدة الصراعات ويفتح المجال لبداية جديدة هدفها البناء المشترك للمستقبل، وهو ما يجب أن يحرص عليه الجميع، السلطة والمعارضة، أرباب الأعمال، النقابيون، النساء والرجال وكل من هو في موقع سلطة ما، كل ذلك كي تتسلم الأجيال الجديدة المشعل في أحسن الظروف. وعلى قول العلامة ابن خلدون: "العدل أساس العمران"، يمكننا القول: "الحوار أساس العلاقات". قد يبدو القول طوباوياً في واقع شديد التعقيد لكنني لا أرى خياراً آخر.