عنف الأمهات
كانت ليلة ثقيلة، استرجعت عبرها حكايات ظلم عتيق ومقيم في الذاكرة، لكنه مغلّف بالمحبة، صورة أمي تزورني في المنام، أسمع صوتها وأحلم بالهرب منه، يحاصرني صوتها العنيف وهو يرسل لي أوامر صارمة بالنهوض لتنفيذ قائمة أعمال تتلوها عليّ عالماشي، رشاً ودراكاً، كبندقية متوّحشة وبأوامر عسكرية حازمة.
يشيرون نحوي بأصابعهم، وبالهمس يقولون: بيتها غير مرتب، غرفتها مزدحمة بكلّ ما تملك من ربطة الخبز، وحتى الأغطية السميكة والوسادة وحذائي الشتوي، وحقائب وأكياس فارغة مرمية ومتناثرة، كلّ التفاصيل تؤكد رغبتي بأن أكون حرّة حتى في زحام يومياتي، كرهت المسؤوليات والترتيب والالتزام بمهام أرهقت تفاصيل طفولتي، وجعلت منّي طفلة من ورق وخادمة منتهكة الحقوق، تحت مسمّى الابنة الكبرى في عائلة ريفية بسيطة.
في الأرياف، وفي العائلات كبيرة العدد، ثمّة وجود لأمّين معاً، أم للإنجاب والإرضاع ولمرافقة الزوج إلى الأرض وللطبخ وخدمة كبار العائلة، وأمّ لكلّ ما تبقى، وخاصة العناية بالتفاصيل اليومية للعائلة والإخوة الذكور، حتى لو كانوا أكبر عمراً.
أكره مهمة وضع الفطور، وتحضير اللفائف، والزوّادة، أكره نشر الغسيل وجمعه عن الحبال، ومن ثم طيّه وترتيبه في مساحات ضيقة ورطبة، يتهمني إخوتي دوماً بأنني أخطئ في ترتيب ملابسهم، فيلبسون سراويل بعضهم البعض، ويتشاجرون ويتأخرون عن المدرسة، فجأة صرت مدبرة منزل قاسية وضجرة وحزينة، مثقلة بالمهمات وأخاف من كلّ شيء، وخاصة الوقت، أكره البيت وأوامر أمي وتبرّم أخوتي، وأكره نفسي قبل كلّ شيء.
تنعكس الأدوار، تمتلئ الابنة الكبرى بالشفقة على أمها وعجزها عن أداء كلّ ما هو مطلوب منها، لتعود الابنة نفسها لتحاكم أمها على شفقة مفقودة لم تنلها الطفلة كما تستحق، تتحوّل الأم إلى ظالمة، وتتحوّل الطفلة إلى كومة من المظالم، لا شفاء من الظلم ولا من تغييب الشفقة.
ينبغي علينا ألا نظلم الأمهات، ألا نحاكمهن على ظلم عانين منه سابقاً
تدّعي بعض الأمهات أنهن قادرات على إدارة شؤون العائلة باقتدار وتميز، يعاملهن المجتمع بأنهن أمهات حكيمات وناضجات وكاشفات للمستقبل، وداريات عالمات بمصلحة بناتهن تحديداً، ترتبط الحكمة بالقسوة المقبولة مجتمعياً والمعرفة، وكأنها فضل للأمهات على البنات.
تتحكم الأمهات بقرارات البنات، يدعين أنهن أدرى بمصلحتهن، السيدة فوزية مديرة المدرسة الإعدادية لعشرين عاماً، تقول بحزن وندم: تخيّلوا حصلت ابنتي على مجموع علامات يؤهلها لدراسة الطب، لكني فرضت عليها دراسة الهندسة الزراعية، لأنّ الجامعة موجودة في مدينتنا، كنت أرفض بشدة سفر ابنتي إلى مدينة أخرى، مع أننا قادرون مادياً على ذلك، رفضت تسجيل ابنتي في كلية الطب بذريعة رغبتي بأن تكون ابنتي زوجة مرتاحة، لا يطلبونها في عملها للمناوبات الليلية، ولا تقضي سنيناً عشر لتكمل دراستها، ولن ترفض شباناً مقتدرين مادياً وأبناء عائلات مرموقة بذريعة أنهم أقلّ منها علمياً.
كلّ المقاربات التي تسمّى زوراً بالمنطقية، تبنى على قواعد ظالمة، تربط الفتيات حكماً بمسألة الزواج، وتربط الأمهات بوظيفة المقرّرات والمنفذات لشرائع العائلة والمجتمع، تتحوّل الأمهات فجأة لقاضيات أو حاكمات بأمر بناتهن، يتربّى الظلم كركن أساسي في معركة الحياة، يمتد، يهزم الروح، يملأ القلب بالقسوة وبالأسف والغضب معاً، تتبدّل العلاقة ما بين الأمهات والبنات بحكم عوامل التحكّم والقوة الواهمة، إنها قوة طاردة للرضا والحرية الشخصية، قوة ظالمة ومدمرة أحياناً.
يصل تدخل الأمهات برسم مسارات حيوات بناتهن إلى مفاصل خطرة، تهدّد السلامة الصحية والنفسية، وقد تطيح بمستقبل البنات
مهم ولافت، أن تعترف الأمهات بكلّ هذا الظلم، في لحظة مكاشفة كنت شاهدة عليها، قالت الأم فوزية لابنتها التي التزمت مذعنة بخارطة الطريق التي رسمتها لها أمها بكلّ حزم: سامحيني يا أمي! قالتها الأم لابنتها نادمة، لكن الابنة بنت من تلك اللحظة مدماكاً للقوة القادمة، أعلنت أنها ستحصل على درجة الدكتوراه في الهندسة الزراعية، وستلتزم الأم بحضانة حفيديها خلال غياب الابنة في الجامعة للحصول على لقب طالما تمنّته وخطّطت له وتعبت من أجله: الدكتورة!
ينبغي علينا ألا نظلم الأمهات، ألا نحاكمهن على ظلم عانين منه سابقاً، وربما تدّعي بعض الأمهات أنهن يظلمن على سبيل الاحتياط للحماية من ظلم أكبر وأوسع، لكن الصورة النمطية للنساء، ما زالت شبه ثابتة ولا تتزحزح إلا في حالات خاصة، وفي بيئات بعيدة جداً، حيث لا حسيب ولا رقيب، كما يصفها من لا يجرؤ على القيام بها.
يصل تدخل الأمهات برسم مسارات حيوات بناتهن إلى مفاصل خطرة، تهدّد السلامة الصحية والنفسية، وقد تطيح بمستقبل البنات، حين تجعل منهن أدوات لإرضاء المجتمع والزوج المستقبلي، مما يساهم في تحويل البنات إلى كائنات هشّة تستجدي الرضا، رضا الأهل ورضا الشريك ورضا المجتمع، أمّا عن رضا الذات، فهو فعل ملغى، لأنّ الذات هشّة وبعيدة وعاجزة عن وعي الذات والإمساك بها.
الأخطر تزيين هذا التعنيف بالعاطفة، وبمنطق استلابي، وكأنه المصلحة الفضلى للبنات
أصرّت وصال على إجراء عملية تكبير ثديين لطفلتها التي لمّا تصل عمر الاستقلالية والنضج. تالا في السابعة عشرة من عمرها، انفصلت مرتين عن شابين بعد خطبة قصيرة. كانت كالببغاء تكرّر ما تلقنه أمها لها، وعند كلّ خلاف ما بين تالا وخطيبها، كانت أمها تستلم زمام الرد، وتقول للعريس: "أنا عطيتك بنتي ببلاش، أنت لا تستحق ظفرها، ستتزوج مليونيراً يقدر جمالها وأدبها"!
كانت البداية في عيادات أطباء التجميل مع عمليتين جراحيتين متكرّرتين لتصغير الأنف، وبعد الحصول على شكل أنف مرضٍ، قرّرت الأم تكبير ثديي طفلتها ضاربة عرض الحائط بصحتها وبسلامتها الشخصية، حصلت الأم على نتيجة أرضتها، وباتت تركز في كلّ زيارة لها على شكل ثديي ابنتها المثاليين. تعاني تالا من آلام كثيرة في ثدييها، وفي المنطقة المحيطة بهما، لكنها فرحة بما قامت به، تعتبر نفسها الدمية الأجمل، والتي ستجلب عريساً غنياً ومقتدراً، ببلاغة تدعو للسخرية تقول آية: "جسدي ملكي وسأنحته كما أريد!"، والحقيقة أنها تنحته بناء على مخططات أمها التي تهدف لتسويق مثالي ومربح لأمها أولاً وآخراً، وكأن آية قطعة أثاث ستكون ملكاً لمن يدفع أكثر.
حوادث كثيرة تكسر مقولات تقدّس الأمهات وتقدمهن على أنهن دون استثناء، مميزات وحنونات يحترمن حقوق بناتهن. العلاقة معقدة هنا، فالأمهات المقموعات حتى بمخيلاتهن وتصوّراتهن عن بناتهن، سينشئن بنات مقموعات أيضاً، إنها علاقات تحكم شدّ وثاق العنف في دائرة مغلقة تنطلق من الأقوى نحو الأضعف وبالعكس، والعكس سينكشف لا محالة حيث لا ينفع الندم، وحيث لا شيء إلا هزيمة النساء أو الرضا بتعنيفهن، والأخطر تزيين هذا التعنيف بالعاطفة، وبمنطق استلابي، وكأنه المصلحة الفضلى للبنات.