سيدات بسيطات... كأنهن يمتلكن العالم

16 مارس 2022
+ الخط -

عندما سافرنا إلى جورجيا والتي لا تخلو من الحكايات الحميمة التي أحب أن أسردها وتبدأ دائماً بـ"عندما سافرنا إلى.."؛ رغم أنها تبدو أحداثاً عادية إلا أنني أثمنها؛ ربما لأننا نعيش في بلدٍ تضربه الوتيرة المتسارعة والرأسمالية الفجة.. ربما.

المهم، عندما كنا هناك في ذلك البلد الخام الذي يقبع في آخر العالم الأوروبي بهدوء وكأنه لا يكترث لأي شيء؛ والذي خرج من تحت سيطرة روسيا ليبدأ الوقوع في براثن أميركا؛ لاحظت أن أغلب العمالة من النساء، لا فرق في الأعمار أو المستويات فالكل يعمل؛ وعلمت أنهن اللاتي حملن البلاد على أكتافهن في الوقت الذي خرج الرجال للحرب كالعادة.

شدتني ثلاث سيدات في أماكن مختلفة ورغم كبر سنهن إلا أنهن يعملن بحماسة وجهد ويبتسمن، وكأنهن يمتلكن العالم رغم الظروف الاقتصادية السيئة التي تمر بها بلدهن، وكنت دائماً عندما أرى الواحدة تلو الأخرى أبتسم؛ أحتضنهن بعيني وروحي وأبتسم.

الصورة
سيدات بسيطات من جورجيا

صاحبة المقهى الجميل العتيق في شارع المقاهي أو شارع "إيريكلي" بتبليسي العاصمة تجلس في الواجهة بقميصها الأسود بدون أكمام؛ ذات شعر بني يخالطه الشيب وبعض التجاعيد هنا وهناك، ترتدي نظارة وبجدية تشوبها ابتسامة تراجع الحسابات بتركيز وتخبر "الجرسون" بنظراتها أن يهتم بالزبائن.

تلك السيدة أسرتني؛ أنظر إليها وأخبرها بيني وبين نفسي: يا لحظك يا سيدتي، تقبعين في مكانٍ خلاب في آخر العالم لا يشغل بالك سوى مقهاكِ الصغير ذي الديكور الخشبي القديم والمريح؛ بألوانه الزاهية وأنواره الدافئة؛ تحيطه نباتات من جوانبه وزخات المطر تغلفه، وكأنه يخرج من رواية رومانسية قديمة؛ وتبدين وسط كل ذلك وكأنكِ تملكين العالم!

راقبتك بنظراتي وأنتِ تذهبين وتشرفين على تقديم طلبات الزبائن، ثم جاء دورنا فالتقت نظراتنا وابتسمنا؛ لا أعلم ما كان يدور بخلدك آنذاك لكن ابتساماتنا كانت تقول الكثير - ذلك الفخر الأنثوي - وعلمتُ بيني وبين نفسي أنني قد أكون مثلك في حياةٍ أخرى إن لم أختر العمل بالصحافة والكتابة؛ أو ربما أفعلها في حياتي هذه وتكونين زبونتي هذه المرة.. من يدري!

***

كانت الأخرى بفستانها الأحمر الناري وإكليل الورد الجوري على رأسها والذي يجعل منها ملكة وسط حديقة أزهارها المتنقلة، تجلس السيدة التي تبدو من تجاعيد وجهها وشعرها الأبيض الفضي القصير جداً وامتلاء جسمها أنها جَدّة منذ زمن؛ أمام مبنى عتيق ذي طوب أحمر في طريقك وأنت تصعد لزيارة تمثال "أم جورجيا" أو "أم الجورجيين" الشهير.

السيدة ذات الفستان الأحمر تجلس حولها جرادل حية من الأزهار والورود الجورية والأقحوان أو زهرة الربيع البيضاء والصفراء؛ تصنع منها أكاليل للعابرين بحسب تفضيلاتهم؛ تمسك غصناً طويلاً أخضر نضراً وتبدأ في طيه ولفّ الأزهار عليه في شيءٍ من الفن والإبداع، ثم تربطه بشريط حريري مختلف الألوان، ويصبح الإكليل جاهزاً ليحطّ على أي رأسٍ ليتوّجه.

يمتزج هذا المشهد الملون كلياً بقرب ساعة غروب الشمس الذهبية، وكأنه يخرج من لوحة أحد الرسامين العالميين، تخيلتُ نفسي هي؛ أجلسُ بلوني الأحمر وسط حديقتي الساحرة وحولي الأحفاد وابتسمت.

نادت علينا فتبادلنا الابتسام، أخبرتنا أنها ستصنع لنا إكليلًا وعلينا أن نختار من حديقتها فكان الأقحوان الأبيض - اختيار صوفيا صغيرتي -؛ وما إن انتهتْ حتى توّجهت به بحنان وفخر؛ كان الإكليل بالفعل ملائكياً يليق بصوفيا.

***

أما الثالثة فملامحها قوية ومع سواد شعرها المصبوغ وتجاعيدها تعطيك السيدة انطباعاً بالحزم والجدية؛ فهكذا تدير عملها الفني الخاص في مدينة "باتومي" ذات البحر الخلاب والمعالم السياحية المختلفة.

ترتدي السيدة ملابس عملية، وتعمل في صناعة يدوية لا أراها منتشرة كثيراً؛ إذ تصنع إكسسوارات منزلية من أحجار البحر الصغيرة جداً والرمال والأصداف، فتصنع المزهريات بأحجام مختلفة؛ وكذلك علب المناديل الورقية، وأيضاً أكواب القهوة وصحون الحلوى والفاكهة ومنفضة السجائر بشتى أشكالها وألوانها.

يأتيها السياح منبهرين، فهم أغلب زبائنها ونحن منهم، تستعرض أمامنا بفخر عمل يديها وابنها؛ فهناك أعمال صنعتها باللون الأسود، وهناك اللون البني الغامق والفاتح وكذلك اللون "البيج".

لا ندري أياً من الأعمال نشتري، فكلها رائعة، الحيرة تكبر وعيوننا تتسع انبهاراً، ثم أتت إلينا مبتسمة وسألتنا عما نبحث فأخبرناها أننا نريد تذكاراً من باتومي، فدلّتنا على بعض الأعمال واخترنا منها واحداً، وشكرناها بإيماءةٍ وابتسامةٍ وإثناءٍ.

***

ثلاث سيدات رسمن في ذاكرتي نقشاً لحواء التي رغم الحروب والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السيئة والعنيفة والمشتركة عالمياً تقف على قدميها مجدداً ومجدداً ومجدداً، وتدير الحياة وتمتلك بابتسامتها ومشروعاتها الصغيرة عالمها وإن بدا صغيراً.

هند محسن .. مصر
هند محسن
كاتبة صحافية، تعمل بالصحافة منذ عام 2008. فخورة بمشاركتها في ثورة يناير. أقول دائما: الكتابة حلم تتحقق معه حرية الإنسان، ويظل العمل الصحافي الميداني هو الأكثر تحرراً وتمرداً وحقيقةً.