"رمضان" الذي أفتقده في غربتي فأصنع شبيهه
منذ أكثر من شهرين تسألني صغيرتي صوفيا في لهفة: "هو إمتى هيجي (سيأتي) شهر رمضان"؛ أخبرها أنه لا يزال هناك شهران متبقيان؛ كل عدة أيام تعاود سؤالي وأكرر إجابتي.
تنتظر صغيرتي شهر رمضان من أجل طقوسه وزيناته؛ فهي لا تدرك بعد روحانيته أو حتى صيامه، لكن طقوسه أكثر ما يجذبها ويجعلها تحب الاحتفال.
قبل يومين من قدوم رمضان هذا العام؛ أتتني بأساريرها فرحة؛ تخبرني أن علينا أن نعلق زينة رمضان ونحضر الفوانيس والمفارش والأنوار ونشاهد مسلسل "بوجي وطمطم" الذي أعجبها، نظرت لها وتبسمت لحماسها؛ صغيرتي كبرت وتحب التزيين والاحتفال والطقوس مثلي.
أذكر أن أول رمضان قضيته في الغربة كان الأصعب؛ كان بلا روح أو طقوس كالتي عهدتها في وطني مصر، كان صياما ليس كالصيام؛ وطعاما ليس بمثل المذاق، هناك دائماً شيء ناقص، الغربة تُنقص كل شيء!
"رمضان في مصر حاجة تانية.. والسر في التفاصيل" كما تخبرنا الأغنية؛ التفاصيل هي ما كنت أفتقده في غربتي، افتقدتُ تزيين الشوارع والأزقة فملأتُ منزلنا بالزينات مختلفة الأشكال والألوان.
أفتح صندوق ذاكرتي وأعيد إحياء ذكريات طفولتي وأستدعيها إلى حاضري؛ أعلقها زينات وفوانيس وأغنيها وأتذوق أطايبها، علّها تخفف من وطأة الاغتراب
افتقدتُ الأنوار المبهرة التي لا تنطفئ؛ فعلقتها في غرفنا بألوانها المضيئة، لم أستطع أن أسمع أذان المغرب للإفطار؛ فقمتُ بتشغيل تواشيح وابتهالات النقشبندي ليصدح صوته من هاتفي أو التلفاز لأشعر بالأجواء التي تسبق الأذان؛ فيعيدني سنوات بعيدة للوراء.
فرشنا مفارش الخيامية؛ وأحضرنا الفوانيس؛ وأشعلنا البخور؛ وقمنا بتشغيل أغاني رمضان التي تعبق بمشاعر الماضي وذكرياته، تحبها طفلتي كثيراً وتدندن معها؛ "وحوي ياوحوي .. إياحا"؛ "رمضان جانا .. وفرحنا به .. بعد غيابه .. أهلاً رمضان"؛ "الليلة الكبيرة ياعمي والعالم كتيرة".
نحضّر عصائر رمضان أو نشتريها -ليس المذاق ذاته لكن لا بأس بها- ونشتري القطايف والكنافة الطازجة؛ افتقد كثيراً عندما كنت أصطف في الطابور لأشتريها في مصر؛ كان أكثر ما يخفف عني الانتظار مشاهدتي لصانعها الذي يرسم بشكل هندسي القطايف والكنافة بإتقان، كم أشتاق لذلك كثيراً؛ كم أشتاق للرائحة.
الروائح في رمضان غير، أذكر أني قرأت عن دراسة علمية تؤكد أن للحواس ذاكرة؛ خاصة حاسة الشمّ، فالروائح لديها القدرة على استعادة الذكريات البعيدة بسبب قدرتها الهائلة للوصول إلى مناطق الذاكرة الأعمق في الدماغ.
لذا فإنني أفتقد كل الروائح المرتبطة برمضان، أفتقد رائحة الفول والفلافل عندما نشتريها ليلاً من أجل السحور، وأفتقد رائحة عصائر العرقسوس وقمر الدين والتمر الهندي التي نأتي بها قبل الإفطار بدقائق، أفتقد رائحة طعام أمي الشهية، أفتقد رائحة الشوارع والبيوت هناك.
أفتقد عادات كثيرة فقدت روحها في الغربة؛ صوت المسحراتي يضرب طبلته تحت شباك بيتنا قرب الفجر يغني زجله وينادي الأسماء؛ فأجري كالطفلة لأشاهده، وأصوات المقاهي الشعبية تسهر حتى الصباح، أصوات المعالق ترتطم بالصحون بعد أذان المغرب؛ وأصوات المساجد وقت صلاة التراويح، وصوت النقشبندي قبل الإفطار وأذان الشيخ الحصري أو رفعت.
أفتقد لمتنا -أمي وأخوتي- على سفرة واحدة في لهفة ننتظر مدفع الإفطار؛ -رمضان وحده كان يفعل ذلك-، وأفتقد عزائم الأقارب والأصدقاء المختلفة؛ أفتقد أخي المعتقل في سجون النظام القمعي، أفتقد والدي رحمه الله وأفتقد جدي وجدتي -رحمهما الله- ورائحة بيتهما وطعامهما في رمضان.
أفتقد توزيع التمور والعصائر على العائدين متأخرين إلى بيوتهم، أو توزيع حقائب رمضان على المحتاجين؛ أو إطعام الصائمين الفقراء، افتقد كثيراً لروح رمضان في وطني.
رأيتُ منذ عدة أيام إعلاناً لإحدى المدن الجديدة في القاهرة؛ وكيف صنعوا "مفاجأة لقاء" لعائلات تشتاق لمغتربيها، هربتُ من رؤيته في أيام رمضان الأولى لأنها دائماً الأصعب لكنه لا مفر؛ ورأيته ونزلت دموعي معهم وضحكت معهم واحتضنت مَن افتقدهم في خيالي معهم، أليس من حقنا مثل ذاك اللقاء؟ ألسنا أولى به ونحن المغتربون قسرياً لمجرد معارضتنا للنظام الحالي؛ لكن لا بأس كان الإعلان رائعاً كفاية لأفرح لهم وأحلم لنا.
تباً للنوستالجيا.. تفسد عليّ حاضري دائماً، ظننتُ أنني قد أتعايش مع الغربة ونواقصها؛ بل وظننت أنني لن أفتقد كل ذاك أو قد أصنع الذكريات الخاصة بكل مناسبة؛ ربما بالفعل أصنع ذلك لكنه لا مفر مغلف برائحة الماضي المعتق في ذاكرتي.
أحاول بكل قدرتي أن أعيش أجواء رمضان التي أحنّ إليها وغيرها، فأفتح صندوق ذاكرتي وأعيد إحياء ذكريات طفولتي وأستدعيها إلى حاضري؛ أعلقها زينات وفوانيس وأغنيها وأتذوق أطايبها، علّها تخفف من وطأة الاغتراب؛ وتربط طفلتي بثقافتها وتقاليد وطنها؛ فتصنع ذكرياتها من ذكرياتي؛ وتكون لها أجواؤها الخاصة من الحنين.