اللعنة على صافرات الإنذار
صافرات الإنذار دقت صباحنا العادي برعبٍ محتمل رغم أنها بعيدة عنا كل البعد، إلا أن ذلك يستدعي لذاكرتنا أيامنا الخاصة المرعبة؛ يستدعي كوابيسنا ونوبات هلعنا وصوراً أبدية لا تُمحى.
ماذا تعني لنا كلمة "حرب"؟ أخذتُ أردد هذا السؤال طوال أمس. أعتقد أن بعضنا لا يأخذها على محمل الجد لأنه لم يعش ويلاتها، لكنها بالنسبة لي مرعبة ودنيئة. الحرب تأكل كل شيء؛ فبالنسبة لي هي تلك الصور ومقاطع الفيديو التي كنت أشاهدها على شاشات الأخبار والصحف في فترة التسعينيات وأنا صغيرة لضحايا رواندا ثم ضحايا البوسنة والهرسك فضحايا كوسوفو؛ ناهيك عما يحدث في فلسطين من مجازر وحروب؛ صراخٌ يرن في أذني وبقايا بيوت مهدمة ونيران لا تخمد أبداً. أجل.. أنت تعلم الآن ما أعنيه بالضبط.
هذه الحروب أثرت في ذاكرتي ونفسيتي كأني عشتها تماماً؛ ولأنني كنت أحب الصحافة منذ صغري فلم أستطع منع نفسي ولم يمنعني أحد بالتبعية من إيذاء نفسي بانخراطي بهذا العمق في الأحداث لأنني كنت أريد أن أعرف وأساعد؛ شيء بائس ومحزن.
ثم أتت ثورات ربيعنا العربي كالحلم بقوة؛ وقُوبلنا بعنفٍ مفرط وجرائم قتل لكننا لم نعد نخاف بعد الآن. إلا أن ما حدث بعدها في سورية ثم ليبيا ثم اليمن استدعى الرعب مجدداً لأهوال الحرب القميئة. الصور لا تكذب أبداً. وصور قيصر ذبحتنا نحن شعوب الأرض من الوريد إلى الوريد.
المجتمع الدولي شجب وندد واستهجن وأدان من دون أن يحرك ساكناً لإنقاذ شعبٍ من براثن آلة الحرب
أعلم عزيزي القارئ ما تفكر فيه؛ كيف نسيتُ ما روعنا، نحن المصريين، في 14 أغسطس/ آب 2013، كيف لي أن أنسى ما حدث في "مجزرة رابعة"؟ إنها تلاحق جيلنا وأرواحنا وتفتك بذاكرتنا التي لا تنسى صافرات الإنذار.
عندما استيقظنا بالأمس في تكاسل وروتينية؛ باغتتنا صافرات الإنذار ثانيةً أو قل عاشراً لتعلن حرباً مفاجئة في دول العالم الأول لا ناقة للشعوب فيها ولا جمل، تنذر بالرعب والخراب ومزيداً من اللاجئين.
حقيقةً أصابتني رجفة وكآبة من خبر الحرب على أوكرانيا المنتشر كالنار في الهشيم في صحفنا. حاولت في البداية ألا أشاهد شيئاً لكن العادة تقتل صاحبها في نهاية الأمر، فكرتُ في ضحاياها الجدد وخرابها الذي سيدفع ثمنه أجيالاً. في النساء والأطفال والأصدقاء هناك. في اللاجئين القدامى واللاجئين الجدد، يا للحظ التعس قد لجأ الآلاف إلى أوكرانيا هرباً من حروب بلادهم لتضربهم حرب جديدة.
الكل يتحدث سياسياً وعسكرياً واقتصادياً؛ لا أحد يتطرّق لمأساة موشكة الحدوث، لا أحد يتكلم عن الضحايا، لا يهم سوى الأوضاع السياسية للدول المجاورة واستقرارها. لا يهم الناس، فالشعوب وقود الحروب تفنى وتعود، المهم الهيمنة وفرض القوة والأنا.
في حين أن المجتمع الدولي شجب وندد واستهجن وأدان من دون أن يحرك ساكناً لإنقاذ شعبٍ من براثن آلة الحرب. تحضر عندها عبارة ريتشارد قلب الأسد المشهورة عندما تخلى عنه الداعمون في حربه: "كل حلفائكَ باعوك يا ريتشارد".. "كل حلفائكِ باعوك يا أوكرانيا".
يصعب عليّ أن تمرّ كل تلك الحروب في زمني، ماذا اقترف جيلنا لكل هذا البؤس؟ لكن الذي يخفف المأساة ويُحيي الأمل كل مرة في قلوبنا أن الشعوب إذا ما قاومت لم يقدر عليها أحد؛ وإذا ما أرادت لم يكسرها شيء، فهذا أب يودع طفلته وزوجته ويرسلهما لمكانٍ آمن ليقاوم مع زملائه الاجتياح الروسي لبلاده، وهؤلاء آلاف المتظاهرين في روسيا ضد حرب بلادهم على أوكرانيا يحتجون ولا يأبهون للآلة القمعية الأمنية.
فالمجد لكل شعوب الأرض وللحق والمقاومة.. ولا عزاء للديكتاتوريين.