تركيا والفخ السوري

27 ديسمبر 2024
+ الخط -

يبدو واضحاً أنّ تركيا تتولّى قيادة المشهد السوري في مرحلة ما بعد الأسد، بعد حصولها على توافق ودعم دولي لهذه المهمة. لكن بالعودة إلى الموقف الإيراني من سقوط الاسد، بدا واضحًا من التصريحات التي أدلى بها المسؤولون الإيرانيون والأتراك تردّد إيران في تقديم الدعم الكامل لنظام الأسد. وهناك تصريح مثير للاهتمام صدر عن مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، بعد عدّة أيام من سقوط نظام الحكم في سورية، قال فيه: "لم نتوقع أن تقع تركيا، التي لديها تاريخ إسلامي طويل، في الفخ الذي أعدّته لها أميركا والصهاينة". هذا التصريح يعكس غالبًا رؤية التيار المحافظ في إيران، ويتناول "الفخ" كتحذير من عدّة سيناريوهات قد تكون منفصلة أو مجتمعة، أبرزها: تقسيم سورية إلى كياناتٍ ومناطق نفوذ متناحرة، سعي الكيان الإسرائيلي لاقتطاع المزيد من الأراضي السورية وتوسيع خريطته، اندلاع حرب مفتوحة بين تركيا والمكوّن الكردي في سورية.

على الجانب الآخر، نرى تصريحًا لافتًا لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الذي كان مديرًا للاستخبارات بين 2010 و2023، إذ قال: "الأمر الأكثر أهمية قضى بالتحدث إلى الروس والإيرانيين، والتأكد من أنهم لن يتدخلوا عسكريًا في المعادلة. تحدثنا مع الروس والإيرانيين وقد تفهموا ذلك".

هذا التصريح يشير إلى أنّ الحكومة الإيرانية كانت تدرك سقوط الأسد الحتمي، خاصة أنّ الرئيس الإيراني الحالي يمثّل التيار الإصلاحي، وهو تيار يحمل أجندات مختلفة عن المحافظين. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الدور البارز لنائب رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف، الذي استقال بعد 11 يومًا من تعيينه، لكنه عاد بعد تلقيه ضمانات بمزيد من الصلاحيات. ويُعرف ظريف بأنه مهندس الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، وفي عام 2021 ظهر تسجيل صوتي له ينتقد فيه سيطرة الحرس الثوري على السياسة الخارجية للبلاد وإقحام إيران في الحرب السورية بأمر من روسيا.

من الواضح أنّ خطوة التخلّي عن الأسد لم تكن مجانية، فهناك صفقة تركية إيرانية روسية لم تتضح تفاصيلها بعد

في هذا السياق، يبدو أنّ إيران اختارت التركيز على السياسة وتجنّب مزيد من التورط العسكري، خاصة بعد ضعف نفوذ الحرس الثوري عقب اغتيال قاسم سليماني. هذا التوجّه أثار استياء المحافظين في إيران، الذين اعتبروا التخلّي عن الأسد خطوة متسرّعة أو مكلفة.

من الواضح أنّ خطوة التخلّي عن الأسد لم تكن مجانية، فهناك صفقة تركية إيرانية روسية لم تتضح تفاصيلها بعد. هذه الصفقة أدت إلى تحييد الروس والإيرانيين وامتناعهم عن تقديم مزيد من الدعم للأسد، مما دفعه في محاولةٍ أخيرة للجوء إلى الجامعة العربية وعقد قمة طارئة لإنقاذ حكمه، لكن الوقت كان قد فات، خاصّة مع رفض بعض الدول العربية مبررات انعقاد القمة. في النهاية، وجد الأسد نفسه وحيدًا، ليقبل العرض الروسي بترك السلطة واللجوء إلى موسكو.

الفخ الإيراني الذي أشار إليه علي أكبر ولايتي، المعروف بخبرته الطويلة في السياسة الخارجية حيث شغل منصب وزير الخارجية في إيران لمدة 17 عامًا (1981-1997)، يحمل أربعة تفسيرات محتملة:

أولًا، امتعاض المحافظين، إذ يُظهر الاستغناء عن الحلفاء بسهولة أنّ إيران كدولة غير جادة في دعم شركائها في أوقات المحن، مما دفع ولايتي إلى إطلاق تصريحات غير مدروسة للتعبير عن استيائهم.

ثانيًا، تحذير للتاريخ، ففي حال فشل الثورة السورية ونجاح الكيان الإسرائيلي في تنفيذ مخططاته بتقسيم سورية، قد يعتبر المحافظون هذه التصريحات بمثابة توثيق لموقفهم التحذيري المُسبق من هذا السيناريو.

ثالثًا، عدم إحاطة بكلّ تفاصيل القرار الإيراني، فمن المحتمل أنّ ولايتي لم يكن مطلعًا على كافة جوانب السياسة الإيرانية الجديدة، والتي اختارت الحياد في هذه المرحلة.

رابعًا، قراءة خاطئة للأحداث الجارية خصوصًا مع بداية حقبة ترامب الثانية، حيث قد تكون بعض التحليلات مبنية على استنتاجات غير دقيقة أو متسرّعة.

التوجيهات والدعم التركي للقيادة السورية الجديدة يبدوان حتى الآن متزنين وحكيمين، في ظلّ انتظار تحقيق لمّ الشمل السوري وتضييق فجوة الخلافات بين مختلف مكوّنات المجتمع. ويبدو جليًا أنّ تركيا قد استخلصت الدروس من تجاربها السابقة في ليبيا ومصر، ما مكنها من ضبط الإيقاع في سورية بخطوات مدروسة ومتقنة.

ختامًا، ستكشف لنا الأيام القادمة إن كانت تركيا قد وقعت فعلًا في الفخ السوري، وإن كنا نحن السوريين سنجد أنفسنا مرّة أخرى أدوات في يد دول الجوار، أم إنّ علي أكبر ولايتي قد كبر بما فيه الكفاية ليتمتّع بتقاعد مريح بعيدًا عن السياسة.