الهروب من السياسة إلى السياسة

25 اغسطس 2024
+ الخط -

شعرتُ بالضيق وأنا أتنقلُ من قناةٍ إخباريّةٍ إلى أخرى؛ من "الجزيرة" إلى "العربية" إلى "الإخبارية" وغيرها. فالأخبار لا تُسرّ؛ وكأنّ القيامة قد قامت، إذ لا يوجد ما يبعث على الاطمئنان: انفجار يهزّ لبنان، حرب طائفيّة في العراق، ثلاثة قتلى في زلزال ضرب باكستان...

أغلقتُ التلفاز، وأنا أزفر في ضيقٍ، وأقول في ضيقٍ: سياسة سياسة، ألا يوجد شيء غير السياسة؟ يا لطيف.

غادرتُ البيت، وبدأتُ أتمشى في الشارع الطويل، ذلك الذي يبدو شبه مهجور، خصوصاً في هذا الوقت من اليوم، بعد العصر، حيث العالم كلّه "مخزّن" في دوواين القات، ولا أحد يفكّر في الخروج إلا الفارغون أمثالي!

مررتُ على سوق الخضر، وأنا أراقبُ الباعة الذين تراخوا في خمولٍ وراء بضائعهم، وراحوا يتبادلون الطرائف في خمول. مَنْ يصدّق أنّ هؤلاء هم أنفسهم الذين كانوا في الصباح يزعقون بملء أفواههم منادين على بضائعهم؟

الأخبار لا تُسرّ؛ وكأنّ القيامة قد قامت، إذ لا يوجد ما يبعث على الاطمئنان

توجّهتُ إلى الحديقة العامة في وسط المدينة، واتخذتُ لي ركنًا قصيّاً طالباً شاياً، ولمّا جاء الشاي بدأتُ أرتشفه ببطءٍ وأنا أتأمّل الحديقة بألعابها البدائيّة؛ مراجيح، ومزلقانات للأطفال، وقطار شبه مهجور، وعلى الأرض هناك أناس "مخزنون" ومتناثرون على أعشاب الحديقة، فيما الأصوات ترتفع: واحد شاي يا معلم، اثنان ساندويتش، واحد مفوّر.. 

وفي طرفِ الحديقة كان مجموعة من الناس ملتفين حول تلفاز يعرض مباراةً لكرة القدم، وهم يهلّلون مع كلِّ حركةٍ تظهر على الشاشة، وعلى مقربةٍ منهم جماعة تلعب "الضومنة" وأصواتهم صاخبة مع احتكاك الأحجار على الطاولة.

دار في ذهني: الناس في شبه خواء، ناس يُقتلون في أماكن عديدة من العالم، ونحن هنا نلعب "الضومنة"!

قاطع حبل أفكاري يدٌ تخبط على كتفي في عنفٍ، وصوتٌ مميّز يهتف: "مش معقول.. محفوظ، أنت فين يا راجل؟".

التفتُ إليه، فإذا هو صديقي فؤاد. عناق، وتبادل التحيات.

- اجلس يا فؤاد.. وينك أنت؟

- أنا موجود في هذه الدنيا (يجيب في حركة مسرحية)!

أنادي على النادل: هيه يا مباشر، واحد شاي. وألتفت إلى فؤاد سائلاً: أحمر وإلّا بالحليب؟

يجيب في لامبالاة: أي حاجة، المهم أن تحاسب أنت (يضحك).

أقول: كالمعتاد، لم تتغيّر، ما تزال (جِلْدَة)..

جاء النادل، وطلبتُ منه شاي أحمر.

يقول فؤاد، وهو يريح ظهره على الكرسي: أيوه. وين أنت، وين أيامك، لي زمان طويل لم أراك؟

قلتُ: وين سأكون؟ أكيد في هذه المخروبة.

- ليش مخروبة؟

- تقول لي ليش؛ أنت مش عايش في الدنيا؛ أسعار كلّ شيء طالعة السما؛ من إيجار البيوت إلى المواد الغذائية إلى...

يقاطعني فؤاد: يعني عليك لوحدك، كلّنا نكتوي بذلك، وبعدين سعر الدولار كلّ يوم طالع للعلالي.

 الناس في شبه خواء، ناس يُقتلون في أماكن عديدة من العالم، ونحن هنا نلعب "الضومنة"!

- طيب يا فهيم؛ ليش الدولار يطلع عندنا للعلالي؟ هل الحروب التي تجري في البلدان الأخرى نقلوها إلى عندنا وماناش داري؟

- لالالا، يا صاحبي، الدنيا صارت قريّة صغيرة؛ فالحرب في العراق، مثلاً، تؤثّر علينا، و..

أرفع سبّابتي محذّراً، وأقول: اسمعني، أنا تركت البيت هارب من السياسة وأخبارها في الفضائيات، فلا تفتح لي فضائيّة سياسيّة هنا.

يردّ ضاحكاً: يا هارب من الموت يا ملاقي له.

ثم تكتسي ملامحه بالجد، وهو يقول: يا صاحبي، الدنيا صارت سياسة في سياسة، لكن ما علينا، تعرف أنا وجدت عملاً عند أحد الصرّافين.

- حلو جداً، المهم كم يعطيك أجر، وكيف وقت الدوام؟

- خمسة عشر ألف ريال في الشهر، بدوام من بعد العصر إلى الساعة ثمان مساءً.

- تمام والله، مبروك عليك.

طيب ما دام معك دوام أيش جابك هنا؟

يضحك فؤاد، وهو يرشف من كأس الشاي، ثم يقول: علشان أشرب شاي على حسابك!

- يا سلام عليك.

- الصدق.. الصدق، منتظر يتصل لي الصّراف بعد حوالي...

 ينظر في ساعةِ يده ثم يُكمل: ربع ساعة. وأنت أيش خبارك، لم تقل لي.

- عايش والحمد لله، من البيت إلى الدوام إلى النوم إلى الدوام. زي الناس.

- يا راجل، كلّه محصّل بعضه، الكثير في هذي البلاد مثل القليل.

يَرين علينا شيءٌ من السكون، إلّا من رشفات الشاي.

وحين هممتُ بالقول: يا فؤاد، أنت ذاكر... قاطعني رنين تلفون فؤاد السيّار، الذي يخرجه من جيبه، وهو يقول: هذا أكيد الصرّاف.

- ألو أيوه. نعم. الآن جاي الآن.

يغلق السيّار، ثم يكرعُ الشاي إلى جوفه دفعةً واحدة، وهو يقول: استأذنك، نلتقي إن شاء الله، شكراً على الشاي.

يغيب عند بوابة الحديقة التي لم تزل على حالها، مثلما هو حالي تماماً. 

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى