المندوب حارس القيم أو المندوب الشرعي

18 اغسطس 2023
+ الخط -

انتشرت القصة منذ أيام قليلة، تحديداً يوم الاثنين الموافق 7 أغسطس/ آب، عندما نشرت سيدة عبر حسابها على "فيسبوك" تجربتها عند شراء قطعة ملابس عن طريق خدمة الأونلاين، وقالت: "طلبت حاجة تخص لبس البيت، بس الحاجة دي ممكن تتلبس خارج البيت وتكون غير شرعية". بعد يومين من الطلب، تلقت السيدة إياها اتصالاً من المندوب، يطلب منها العنوان بالضبط، وعندما وجدها تزيد في الشرح، على حدّ قولها، طلب منها كتابة العنوان على الواتساب. الأمور تبدو في نطاق العادي حتى الآن، إلى أن وجدت الفتاة المسؤولة، والتي قامت بتسجيل الطلب، تتصل بها مرّة أخرى، ودار هذا الحوار:

  • - آسفة، هو والله مش تطفل، هو حضرتك هاتلبسي الحاجة دي بره البيت؟
  • - لا حبيبتي، ماتقلقيش، ومفيش أي تطفل ولا حاجة.
  • - أسفة جدا والله، بس المندوب لما شاف محتوى الشنطة قلق، لأنه مش بيوصل أي حاجة غير شرعية.

السيدة صاحبة قطعة القماش (اللي هو فستان سواريه)، أُعجبت أيّما إعجاب بأخلاق المندوب وحرصه على الأخلاق والحفاظ على الأسرة والمجتمع، وقامت بوضع تليفونه على صفحتها (طبعا بعد أن قام زوجها بالاتصال به وحصل على الإذن)، وذلك من أجل العمل معه وتشجيعه.  

استطاع المندوب هنا أن يحصل على صلاحيات لا تُمنح لأيّ فرد في المجتمع، ولا لعدد من مؤسسات مجتمعه، فهو فتح الشنطة لكي يعرف محتواها، وهو له صلاحية تحديد الحلال والحرام، والشرعي وغير الشرعي، وما يُوافق الدين وما يُخالفه، وله الحق أيضا أن يرفض أن يقوم بعمله، إذا لاحظ أيّة مخالفة شرعية، علماً أنّ مراقبة الرسائل والطرود لا تجرى إلا في ظروف استثنائية ويحدّدها القانون بعد موافقة المجلس التشريعي. خلاف ذلك، يتطلّب الأمر الحصول على إذن من النيابة، أمّا مسألة الملبس الشرعي وغير الشرعي، لو اعتبرنا أن هذا الأمر له أهمية هنا وجدير بالنقاش، فهو مختلف عليه فقهياً، وهو أمر يخصّ الفقه وعلماء الدين، وهذا يتغيّر بتغيّر الظروف والأحوال، حسب درجة تطوّر المجتمع وحسب نوع السلطة التي تحكم... إلخ، وثالثا، الامتناع عن تقديم الخدمة لعميل أو زبون يُخالف هنا شروط العمل. المندوب هنا، مثل البواب، مثل، سائق الأجرة، مثل المجتمع، الكلّ مراقب. الجميع يراقب الجميع. كلنا تحت المراقبة. العين تلاحق الجميع، وخاصة النساء لأنّهن الأضعف، والأكثر استباحة، والحدود كلّها تتعلّق بالنساء، فالعين تلاحق وتطارد النساء في مخادعهن، في علاقاتهن. ومن شأن المراقبة هنا أن تحفظ للنظام سيرورته وديمومته، فهي تضمن الانضباط والطاعة، وعندما يتطوّع الأفراد لمراقبة بعضهم بعضاً يكون النظام قد حقق هيمنة غير محدودة على أجساد الناس وعقولهم وأحلامهم، وتظهر النساء في هذا السياق كموضوع مفضّل وحاضر للمراقبة. 

كلنا تحت المراقبة. العين تلاحق الجميع، وخاصة النساء لأنّهن الأضعف، والأكثر استباحة، والحدود كلّها تتعلّق بالنساء

وجود المندوب، والبواب، والسائق، والجار، والبائع، يُسهّل من عمل الأجهزة الانضباطية والعقابية، فهؤلاء يعملون مجاناً وطواعية في خدمة النظام. الأكثر مأساوية في الأمر، أو ما يجعل المسألة حدّ الهزيمة، هو حالة السيدة التي تماهت مع قيم المندوب. هنا خضعت المرأة لسلطةِ قاهرها بفرحٍ وامتنان، وأرادت أن تكافئه على مراقبته للحياة الخاصة، وذلك حفاظاً على الأسرة والقيم ومراقبة الحدود... وأظنّ هذا السلوك هو ما جلب عاصفة من الاستياء والغضب من السيدة، ومن المندوب، ومن الأمر برمته. 

عندما قرأت هذه الواقعة فكرت بكتاب "المراقبة السائلة" لزيغمونت باومان وديفيد ليون، وربما وجب عليّ هنا أن أنقل ما قرأته في المقدمة التي وضعتها د. هبة رؤوف عزت، إذ كتبت: "إنّ أكبر التحديات التي نواجهها هو تخلّى دولة المراقبة عن وظيفة الأمن وتركها المواطن، فيجد نفسه مجبراً على فعل أمرين: أولا، تحمّل العبء بتخزين المؤن وتركيب أجهزة إنذار وشراء مستندات تأمين. وثانياً، تأييد الإجراءات المتطرفة، بما في ذلك التجسّس على الناس، وسجن البعض، وتشجيع الناس على مراقبة بعضهم بعضا والإبلاغ عنهم بمجرد الشك".

 أظن هذا ينطبق تماماً على ما نعيشه بشكل يومي.

 

هذا النص جزء من مدونة "الجندر" التي تسلّط الضوء على قضايا المرأة والمساواة بين الجنسين.
رجائي موسى
رجائي موسى
إثنوغرافي وقاص مصري، مؤسّس دار "هن" النسوية للنشر والتوزيع.

مدونات أخرى