التريند القاتل... بمثابة مقدمة
في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قضت محكمة الجنايات المختصة بجرائم الاتجار بالبشر، المنعقدة بمجمع وادي النطرون، شمال القاهرة، بالحكم المشدّد 7 سنوات، وغرامة 200 ألف جنيه على اليوتيوبر هبة السيد، صاحبة قناة "أم زياد وهبة"، كما عاقبت المتهم الثاني محمد حمدي، الابن، بالسجن المشدّد غيابياً 10 سنوات وغرامة 200 ألف جنيه، والمؤبد غيابياً للمتهم الثالث حسن سمير (زوجها الثاني) وتغريمه 500 ألف جنيه.
كانت هبة السيد، صاحبة القناة، قد نشرت في يوم 29 إبريل/ نيسان الماضي فيديو بعنوان "مصدومة من اللي شفته من ولادي الكبار"، وتعني ابنتها 15 عاماً وابنها 16 عاماً، وقالت: "شفت ابني الكبير في موقف مش كويس مع أخته... في علاقة بينه وبين أخته وهي نايمة". وتظهر هبة دائماً برفقة طفليها الآخرين، زياد وهبة، وهما أصغر سناً.
واستناداً إلى هذا الفيديو، تقدّم المجلس القومي للأمومة والطفولة ببلاغ ضد "هبة السيد" يتهمها بالاتجار بالبشر، وإثارة شبهة جريمة هتك عرض، مما يعرّض أطفالها للخطر، وذلك من أجل رفع نسبة المشاهدة، والحصول على أموال أكثر. وفي عالم السوشيال ميديا: تيك توك، إنستغرام، يوتيوب، فيسبوك، إكس (تويتر سابقاً)... إلخ يتحقق الربح عندما تصل إلى التريند، والكل في سباق نحو التريند.
من أول صاحب وقعة الكشري، إلى هبة السيد أم هبة وزياد، مروراً بصاحب أشهر عربية سمين، ملك الضانى، سيدة وزوجها يقومان بالطبخ من غرفة النوم، طفل يرضع من بز جاموسة، مغني أغنية شيماءأأأ... نحن نشهد لحظة تحوّل في كلّ المفاهيم: الذات، الحقيقة، الصدق، سوق العمل، العلاقات، ...
يتحقق الربح عندما تصل إلى التريند، والكل في سباق نحو التريند
لا يمكن وصف ظاهرة التريند بالهوس والجنون وفساد الأخلاق والطمع والبحث عن الشهرة والمال. لا يمكن وصف ظاهرة بشكل أخلاقي، ولكن يجب فهمها، ولا يمكن ذلك دون الرجوع إلى أصلها الاقتصادي، أي إلى السوق المعرفي، أو رأس المال المعرفي. فمنذ خمسة عقود، تحديداً في عام 1971، ظهر ما يعرف بـ"اقتصاد الانتباه" على يد الاقتصادي الأميركي والحائز على جائزة نوبل، هربرت سيمون، وهو يتعامل مع انتباه الإنسان بوصفه سلعة نادرة وثمينة. وقد صاغ ماثيو كروفورد مبدأ هذا الاقتصاد في جملته الشهيرة "الانتباه مورد، للفرد كمية محدودة منه"، وكلّما حصلنا على انتباه الفرد كلّما زادت فرصتنا الاقتصادية في النمو.
وفي هذا المجال، وفقاً لشركتي "غوغل" و"آبل"، تصنع النساء نحو 70% من هذا المحتوى، وهذا ما يجعل المواد جذابة للشباب وللمراهقين وللمراهقات. ما يحدث في هذا العالم الجديد هو انقلاب جذري في مفاهيم الاقتصاد، فنحن لا نستهلك سلعاً مادية، (طعام وشراب وملابس وأدوية ومنازل ومواصلات... الخ)، ولكن نستهلك وقتاً، وقتنا، أو الزمن الذي نقضيه أمام الشاشات، وهو ما يمثل للجانب الآخر، أي لصانعيه، ربحاً مادياً. ليس هذا وحسب، ولكن أيضاً لديهم القدرة على تحديد سلوكنا الإدراكي تجاه ما يصنعونه، فهم يصنعون التريند وفقاً لدراسة سيكولوجيا الجماعات في هذه اللحظة، مثل المقارنة بين صورتك الحالية وصورتك منذ عشر سنوات، فهي تغذّي الحنين، وتعيد الذكريات من جهة، ومن جهة ثانية، تحقق مزيداً من الأرباح للشركات. لكن الإفراط في الانتباه سوف يسبّب لنا البلادة، وسنفقد قدرتنا على الإحساس، على الفهم، على الدهشة. وربما يأتي تريند صافيناز كاظم، الكاتبة المصرية، تحقيقاً موضحاً، عندما عرضت مكتبتها للبيع، ولمن يهتم، وقالت: "لن أبذل أي مجهود". هذه الجملة صارت تريند، وهي تذكرنا بمقولة بارتلبى النساخ في قصة لهرمان ملفيل تحمل الاسم نفسه، "أفضل ألا أفعل". سوف نكتب، "أفضل ألا أنتبه".
هل لهذا التغيّر تأثير على القضايا النسوية؟ كيف يمكن طرح القضايا النسوية وفقاً لشروط اقتصاد الانتباه؟ ما تأثير المحتوى الذي تقدّمه النساء على القضايا النسوية؟
هذا ما سنتناوله في المدونة القادمة.