جغرافيا نسوية
العلاقة بين السلطة والمكان، علاقة وثيقة جدا، فلا يمكن تخيّل السلطة دون فعلها في تنظيم المكان وتأطيره، فهي التي تضع الحدود والنقاط، وتصنّف المساحات بين ما هو متاح وما هو ممنوع، وهي التي ترسم الأماكن الخطرة والأماكن الآمنة. وكلّما نجحت السلطة في السيطرة على المكان نجحت في الهيمنة. وعندما تحدث انتفاضات أو مظاهرات أو ثورات، فالمكان يبدو منبسطًا أكثر ومرنًا أكثر، بما يحدث انفتاحًا واختراقًا للمساحات الممنوعة. مفهوم الدولة لا يتحقّق إلا برسم الحدود، ولا يظهر المجال السياسي إلا بتنظيم المجال المكاني.
كنت أفكر بعنوان "جغرافيا نسوية" وكأنّي أصك مفهومًا جديدًا في علم الجغرافيا (أو بالمصري، هاجيب الديب من ديله) وأنتظر أيضًا الانتقادات أو السخرية التي طالما جاءت مع الكتابة عمّا هو نسوي، ولكني فوجئت بأنّ المفهوم قائم منذ ثمانينيات القرن الماضي، فقلت: دائمًا أكون الأخير.
يشير المفهوم، وفقًا للكتابات المؤسّسة لهذا الفرع داخل علم الجغرافيا: دراسة العلاقة بين الفضاء والنوع والثقافة، النساء والفضاء والهوية، كيف تتشكل هُويات النساء وفقًا للجغرافيا، دراسة العوامل المؤثّرة على حضور النساء في المجال العام، المساحات التي تظهر فيها النساء، ما هي الطرق التي تتخذها السلطة، ومن شأنها أن تقيّد أو تحرّر حركة النساء في الفضاء العام.
كان المكان قبل خروج النساء إلى سوق العمل، مؤسّسا بشكل بطريركي وتقليدي
كان المكان قبل خروج النساء إلى سوق العمل، مؤسّسا بشكل بطريركي وتقليدي، المجالات محدّدة وواضحة ومتمايزة، النساء لما هو بيتي، والرجال لما هو في الخارج، النساء يسيطرن على المجال الخاص، والرجال يبسطون سيطرتهم على المجال العام أو الخارج. ومنذ وقت قريب، في مصر، كنّا نشاهد مثل هذه التقسيمات واضحة في القرى والنجوع، النساء في البيت/ الداخل أو أمام العتبات للحكي والسمر، بينما الرجال في الحقول/ أو على المصاطب وساحات القرى وأماكن العبادة/ الخارج. مع خروج النساء إلى سوق العمل تغيّر المكان، وصار من الضروري، تجهيزه وتطويعه بقدر ما لملاءمة حضور النساء، ولو في أبسط الأشياء، في الحمامات، داخل المؤسسات، هذه مقاعد مخصّصة للنساء، وفي المترو، هذه العربات مخصّصة للنساء... صار لازمًا على المكان أن يكون في جاهزية لحضور النساء، كلّ النساء، وربّما نذكر أنّ حركة الحقوق المدنية والسياسية في أميركا انطلقت من رفض روزا باركس (ناشطة أميركية من أصول أفريقية طالبت بالحقوق المدنية للأميركان الأفارقة) التنازل عن مقعدها لرجل أبيض في ديسمبر 1955، وأنّ سياسات الفصل العنصري تقوم أساسًا على تقسيم المكان بشكل إثني.
بعد ثورة 25 يناير 2011 في مصر، انفتحت المساحات أكثر لحضور النساء، تجدهن في المقاهي مع الشيشة، وفي الشوارع مع دراجاتهن، وخاصة في صباح الجمعة، يتسكعن في الشوارع، طبعًا شوارع محدّدة وآمنة (الزمالك، المعادي) يتريضن مع كلابهن، ونجدهن أيضًا في بارات شعبية، كانت من قبل، حكرًا على الرجال. كما برزت ضرورة تخصيص ساعات محدّدة في النوادي الرياضية تكون فقط للنساء، سواء لممارسة الجري أو السباحة. لقد أعادت الثورة ترسيمات جديدة للمدينة، وخاصة المدن الكبرى، وبدرجة أقل رأيت ذلك في مدن صغيرة وبعض القرى.
في مصر، ومع موجات اللجوء الأخيرة، من سورية واليمن والسودان وفلسطين، صرنا نرى التعدّد الإثني حاضرًا في الشارع المصري، وربّما الحضور الأبرز للسودان، وذلك نظرًا للتمايز اللوني، ففي معرض القاهرة للكتاب 2024 التقيت بمجموعات عدّة، فكنت أمازحهم: "لازم تشكلوا حكومة منفى هنا". مع الوجود السوداني المكثّف بسبب الحرب الدائرة هناك الآن، يتغيّر الفضاء المديني، سواء في القاهرة أو في المحافظات الأخرى. ستتم إعادة رسم المكان من جديد، بحيث يسمح بوجود كلّ الهويات جنبًا إلى جنب، بالتأكيد، ستحدث نزاعات ومشاحنات، فالمكان هو ساحة للتفاوض وللحوار الجماعي من أجل بناء الهوية وتشكيل الذات، ولكن في النهاية، سينبسط المكان ويُعاد تشكيله من جديد وفقًا لديموغرافيا مختلفة.