الاستقطاب وأثر غرفة الصدى

08 مايو 2023
+ الخط -

لطالما نبت الاستقطاب في وادينا العربي، ولكن يبدو أنه ازداد توحشاً في السنوات الأخيرة مع انتشار استخدام وسائط التواصل الاجتماعي. وبات هذا الاستقطاب أكثر تعقيداً في مجتمعاتنا بسبب عوامل مختلفة، منها تفاقم الاختلافات الدينية والطائفية والقبلية، وبدرجة أقل الاختلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بشكل أدى إلى انحسار أرضيات المجتمع المشتركة لصالح تعميق أخاديد عملاقة باتت تباعد بين المجموعات، راسمةً الحدود للأسف بين من أصبحوا أقرب إلى الإخوة الأعداء منهم إلى المجتمعات المنفتحة المزدهرة.

ومع تسيد المتطرفين الشعبويين المشهد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ازدادت حدة الانقسامات وحدة الاستقطاب، ولم تعد الحقيقة والمنطق يعنيان أحداً، في غابة يبحث معظمنا فيها عمن يصفق له ويعزز فكره ومعتقداته، غابة على وسائط التواصل الاجتماعي يحاول فيها المعظم الانحياز إلى الأصوات المشابهة في سعيهم للحفاظ على وجودهم على هذه المنصات وجذب المزيد من المتابعين.

وفي بيئة أصبحت القاعدة فيها أن تكون متشددًا، والاستثناء أن تكون منفتحاً على الآخر ازدهر تأثير غرفة الصدى، حيث يميل الناس إلى تفضيل الأصوات التي تشبه أصواتهم أو توافق رغباتهم أو معتقداتهم، في ظاهرة يتعرض فيها الأفراد لمعلومات وآراء تعزز معتقداتهم وآراءهم الحالية، دون التعرض لوجهات نظر مختلفة، أو دون تحدي معتقداتهم من قبل آراء مخالفة. ويحدث هذا عندما يحيط الأفراد أنفسهم بأفراد متشابهين في التفكير، أو من خلال متابعتهم فقط لوسائل الإعلام المتحيزة ومصادر المعلومات غير المحايدة التي تؤكد معتقداتهم الحالية فقط. ويؤدي تأثير غرفة الصدى إلى الاستقطاب، حيث يصبح الأفراد أكثر رسوخاً في معتقداتهم وأقل انفتاحاً على وجهات النظر البديلة، مما يقود إلى إضعاف الحوار والتفاهم بين الأفراد أو المجموعات ذات الآراء المختلفة، فضلاً عن تراجع الرغبة في التعاطي مع الأشخاص الذين لديهم آراء مغايرة.

قبل معالجة الآثار السلبية المحتملة للذكاء الاصطناعي على الاستقطاب وتجنب آثاره السلبية، لربما علينا العمل على معالجة جذور الاستقطاب والتطرف في عالمنا الحقيقي، وتشجيع الأفراد على التفاعل مع الأشخاص الذين لديهم آراء مختلفة

 

ولطالما كان هذا هو الحال في مجتمعاتنا ولكن بدرجات متفاوتة، فمعظمنا يميل للبقاء ضمن مناطقنا الآمنة أكانت ضمن مجموعاتنا القبلية، أو الدينية أو الطبقة الاجتماعية، ولكن كان من الصعب في الحياة الواقعية عزل أنفسنا بشكل كامل. فنحن مجبرون على الاحتكاك بالمختلف بشكل أو بآخر مما قلل من تأثير غرفة الصدى. ولكن في سياق وسائط التواصل الاجتماعي والعوالم الافتراضية، يمكن أن يكون تأثير غرفة الصدى أشد وأكثر وضوحًا. فمن جهة، من السهل عزل أنفسنا في الواقع الافتراضي وتجنب المختلف وحصر أنفسنا داخل فقاعات المشابهين، كما يمكن للمتطرفين أياً كانوا أن يعززوا مواقفهم من خلال استغلال وسائط التواصل الاجتماعي لنشر الأكاذيب والمعلومات المضللة التي تدعم أفكارهم ومواقفهم حتى لو غرقوا في خطاب الكراهية والتعصب، مما يضاعف من تأثيرهم وخصوصًا على الجموع من غير المطلعين وغير المنفتحين على العالم. 

وتعزز خوارزميات الذكاء الاصطناعي في وسائط التواصل الاجتماعي التجارية التي تهدف للربح فقط من ظاهرة غرفة الصدى، حيث غالبًا ما تُظهر للمستخدمين محتوى يتوافق مع وجهات نظرهم واهتماماتهم السابقة. وفي محاولتها لتنظيم المحتوى المعروض وتخصيص تجربة المستخدم بناءً على اهتماماته تحاول تزويده بمحتوى أقرب لتفضيلاته، وهو شيء جيد نظرياً ولكنه للأسف يسهم في إنشاء فقاعات مغلقة يزداد فيها تعرض المستخدمين لمحتوى يؤكد معتقداتهم وآراءهم الحالية فقط؛ حيث تم تصميم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتُظهر للمستخدمين محتوى يتوافق مع سلوكهم واهتماماتهم وتفضيلاتهم السابقة، دون التعرض لوجهات نظر مختلفة أو آراء معارضة، وفي المقابل تزيد من وصول المحتوى الذي يحتمل أن يتلقى تفاعلاً من قبلهم، مثل الإعجابات والمشاركات والتعليقات، حتى لو عنى ذلك زيادة تركيز المحتوى المتطرف أو المضلل داخل دوائر ومجتمعات معينة، مما يعزز تأثير غرفة الصدى.

وقبل معالجة الآثار السلبية المحتملة للذكاء الاصطناعي على الاستقطاب وتجنب آثاره السلبية، لربما علينا العمل على معالجة جذور الاستقطاب والتطرف في عالمنا الحقيقي، وتشجيع الأفراد على التفاعل مع الأشخاص الذين لديهم آراء مختلفة، ودفعهم للقراءة والبحث عن وجهات نظر متنوعة، وتسهيل انخراطهم في حوار مدني مع الأشخاص الذين لديهم آراء مغايرة للخروج من غرف الصدى الخاصة بهم. ومن ثم العمل على تحسين الشفافية والمساءلة في خوارزميات الذكاء الاصطناعي، بشكل يشمل توفير المزيد من المعلومات المتنوعة للمستخدمين، وتعزيز ضمانات منع انتشار المحتوى المضلل أو المتطرف، وتعزيز المحتوى المتنوع والمتوازن للمستخدمين، أملاً في تأسيس مجتمعات أكثر انفتاحاً وشمولاً، تجنبنا ويلات الاستقطاب والانقسام وتبعاتهما.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.