إبّ.. ذات مدينة منسية

01 ابريل 2023
+ الخط -

تأتي الصورة من الأعالي وهي تهبط على الكرة الأرضية، تختار الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية. إنها تسلط الضوء على بلدٍ اسمه اليمن، باقتراب الصورة من الخريطة، كما يحدث في "غوغل إيرث"، تلوح تضاريس البلد حيث تبدأ المسميات بالظهور، صنعاء.. ذمار.. تتجه الصورة للأسفل، تنحدر مع السلسلة الجبلية جنوباً، ولا تزال الصورة تهبط أكثر، لحظة! يلوح اسم (إب) IBB.
 
فما هي إبّ؟ 
إبّ، بكسر الألف وباء مشددة معجمة من أسفل، اسم مدينة تقع جنوب صنعاء على بعد 193 كيلومتراً منها، التي هي عاصمة المحافظة التي تحمل الاسم ذاته، كما هو ديدن محافظات اليمن اليوم.
غير أن ما يهمنا هو هذه المدينة الهادئة والمتربعة على ربوة عالية ترنو منها على الوديان المحيطة بها؛ وادي السحول من الشمال ووادي مَيْتَم من الجنوب ووادي الظَّهار من الغرب. والواقع أن هذه المسميات لم تعد أودية تماماً، كما تصفها كتب الجغرافيا، بل صارت حارات سكنية مترامية الأطراف، ومكتظة بسكانها، باستثناء السحول الذي اختلطت فيه الطبيعة الغنّاء بالمساكن الإسمنتية التي بدأت تزحف عليه منذ أواخر القرن الماضي.   
ومن كثرة الخضرة التي تحيط بالمدينة أُطلق عليها مسمى (اللواء الأخضر).

يصفها الرحالة أمين الريحاني عند زيارتها عام 1947: "قلتُ إن (إب) جميلة من بعيد، فالقادم إليها من ماوية أو تعز يراها في السهل وحوله الربى كأنها حفنة من اللؤلؤ على بساط أخضر، مفروش في بحيرة جفت مياهها".  

لكن هل تكفي الجغرافيا للحديث عن أي مدينة؟
لا، فما الجغرافيا إلا بُعد من أبعاد متعددة متداخلة ساهمت في تشكيل المدينة، أيّ مدينة.
فهناك بُعد التاريخ الذي لا ينفصم عن الجغرافيا، كأنهما وجهان لعملة واحدة، يقول د. جمال حمدان: "الجغرافيا تاريخ توقف، في حين التاريخ جغرافيا متحركة".

بيد أن حظ هذه المدينة من التاريخ قليل؛ فلم تكن إبّ حاضرة سياسية لأي دولة حكمت اليمن، لذا لم يُسلّط عليها الضوء كما هو حال التي تبوّأت مكانة سياسية، كصنعاء أو تعز، وحتى في عهد الدولة الصليحية في زمان الملكة أروى بنت أحمد الصليحي (444 - 532 هجرية) كانت العاصمة جِبْلَة، أو ذي جِبْلَة كما كانت تُسمّى، في حين أن إبّ كانت من أعمالها، أي مديرية تابعة لها، كما يذكر ياقوت الحموي في (معجم البلدان)؛ يقول: "أبَّ بالفتح والتشديد كذا قال أبو سعيد، والأب: الزرع في قوله تعالى وفاكهة وأبا؛ وهي بليدة باليمن ينسب إليها أبو محمد عبد الله بن الحسن بن الفياض الهاشمي، وقال ابن سلفة إبْ بكسر الهمزة، قال: وإب مكسور الهمزة من قرى ذي جبلة باليمن، وكذا يقوله أهل اليمن بالكسر ولا يعرفون الفتح".
يعلّق القاضي محمد الحجري على ذلك في "مجموع بلدان اليمن وقبائلها" بقوله: "قلتُ والصحيح أنها بكسر الهمزة، وما حكاه من أنها من قرى ذي جبلة فذلك في ما سبق، وأما اليوم فقد صارت ذي جبلة من أعمال إب".
وتقع جِبْلَة إلى الجنوب الغربي من إب على بعد 6 كيلومترات منها.

إضافة إلى أن هذه المدينة لم تكن حاضرة بهذا المسمى إلا في القرن الخامس الهجري، فلم يكن لها ذكر قبل ذلك في كتب التاريخ، حتى إن لسان اليمن الحسن بن أحمد الهَمْداني (280 ــ 334 هجرية) لم يذكر مسمى إب في كتابه "صفة جزيرة العرب"، بالرغم من أنه وصف كل المناطق المحيطة بها كالسحول وبَعْدان ورَيْمان وغيرها... وهذا يدل على أنها لم تكن حاضرة في زمان الهَمْداني نفسه.

ولو تساءلنا من أين جاء اسم إب؟ 

ذكر أهل التاريخ أسباباً عديدة؛ فمنهم منْ يقول إنه اسم لملك قتباني أو حِمْيَرِي، وآخر يقول هو فارسي، لكن هذه التفاسير لا تصمد عند البحث؛ لأنها لو كانت قديمة لذكرها لسان اليمن الهَمْداني، وهو حجة في التاريخ اليمني القديم. 
أما ما يذهب البعض إلى أن مسمى الثَجَّة، الذي يتداوله العامة، هو الاسم القديم لإبّ، فيردّ عليه قول القاضي محمد أحمد الحجري في كتابه "معجم بلدان اليمن وقبائلها" بقوله: "والذي يدل عليه كلام الهَمْداني في صفة الجزيرة أن مدينة الثَّجَّة كانت في سفح التَعْكَر من ناحية ذي جِبْلَة وأعمال إبْ"، وأردف: "ثُجة بالضم ثم الفتح من مخاليف اليمن بينه وبين الجند ثمانية فراسخ وكذلك بينه وبين السحول، يقال: ثَجَّ الماء إذا دفق.
قلت: والمشهور أن الثَجَّة بفتح الثاء المثلثة والجيم المشددة ثم هاء التأنيث لا كما ضبطه صاحب المعجم، والله أعلم، وما حكاه من أنها متوسطة بين الجند والسحول فهو الحق" أ.هـ.
وفي موضع آخر يقول: "الثَجَّة: مدينة خاربة في سفح جبل التَعْكَر (من الناحية الشرقية للتَعْكَر) من أعمال إبّ".
وجبل التَّعْكَرْ هو الجبل المطل على جِبْلَة من جهة الجنوب الغربي.

أما الذي أطمئن إليه، فهو أن مسمى إب جاء من شهر آب، وهو مسمى لشهر زراعي قديم لا يزال اليمنيون يستخدمون هذا اللفظ، ويقابل شهر أغسطس في التقويم الميلادي، حيث تغزر فيه الأمطار على إب، التي تستمر طوال أشهر الصيف.

ولفظة (أبّا) في قوله تعالى: ﴿وَفاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس: ٣١]، هو المرعى المتهيّئ للرعي كما يذكر الراغب في كتابه "المفردات في غريب القرآن"، وهكذا نجد أن للفظة علاقة بالمطر أيضاً، فلا مرعى بلا مطر، ما يقوي ما ذهبنا إليه أن مسمى إب جاء من آب، شهر المطر.

والله أعلم..

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى